تواجه أسواق قطاع غزة حالة غير مسبوقة من الشح في كل السلع الأساسية وفي مقدمتها المواد الغذائية، الأمر الذي ساهم بتضاعف أسعار الموجودة منها والمرتفعة أصلاً عن سعرها الطبيعي، ما بات ينذر بتفاقم الأوضاع الكارثية للأسواق وجعل أوضاع الفلسطينيين تتسارع نحو الأسوأ.
ويعود النقص الشديد في البضائع داخل الأسواق والمحال التجارية والبسطات الشعبية إلى مافيا الاحتكار والإغلاق الإسرائيلي المتواصل للمعابر ومنع دخول البضائع والمواد الغذائية والأدوية والمستهلكات الطبية والمتطلبات الأساسية منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتشديد ذلك الإغلاق مطلع مايو/ أيار الماضي، إثر الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رفح جنوباً والسيطرة على معبرها البري، الفاصل بين القطاع ومصر والذي كانت تدخل منه الكثير من الأساسيات للغزيين والمساعدات الإنسانية.
وسبّب الإغلاق وما تلاه من شح شديد في البضائع تضاعف الأسعار حيث وصلت في العديد من الأصناف الأساسية إلى ما يزيد عن 30 ضعفاً، في الوقت الذي يعاني فيه الفلسطينيون مستويات غير مسبوقة من الفقر والبطالة نتيجة تدهور أوضاعهم الاقتصادية بسبب فقدان مصادر دخلهم الوحيدة، بفعل تدمير ما يزيد عن 90% من القطاعات التجارية والصناعية والزراعية والسياحية الحيوية.
شبح المجاعة
لم يقتصر النقص الحاد في البضائع والمواد الغذائية والبقوليات والخضار والفواكه والدقيق على المحافظات الشمالية التي تستهدف قوات الاحتلال إخلاءها على اعتبار أنها "مناطق قتال خطيرة" بل تجاوز ذلك ليصل النقص وما يرافقه من شبح المجاعة إلى المناطق الوسطى والجنوبية التي تضم ما يزيد عن مليوني نازح فلسطيني يعيشون ظروفاً معيشية غاية في السوء، على الرغم من الادعاء الإسرائيلي بأنها "مناطق إنسانية آمنة" وتدخلها البضائع والمساعدات.
وإلى جانب الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعانيها الفلسطينيون جراء التأثيرات السلبية للعدوان المتواصل للشهر الرابع عشر على التوالي، فإنها تتزامن مع حالة الغلاء الجنوني في الأسعار، وفقدان السيولة من السوق، وارتفاع سعر العمولة إلى 30% من نسبة المبالغ المراد صرفها، الأمر الذي بات يزيد من تعقيد الأوضاع الاقتصادية والمادية.
وتغيب عن أسواق قطاع غزة العديد من السلع والمواد الغذائية الأساسية بشكل تام مثل أصناف اللحوم الحمراء والبيضاء ما سبّب إغلاق المطاعم الشعبية، إلى جانب نقص الأجبان والألبان والبيض، وأصناف البقوليات والطحين والسكر والملح والخضار والفواكه وارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق.
ويقول الفلسطيني محمود صالح إنه لم يتمكن من افتتاح بسطته الشعبية داخل سوق دير البلح وسط القطاع بسبب عدم قدرته على توفير العديد من أصناف البقوليات جراء الإغلاق المتواصل للمعابر، ونقص المساعدات الإنسانية التي يتم الاعتماد عليها بشكل كبير في الأسواق، حيث يستبدل المستفيدون بعض الأصناف بأصناف أخرى أكثر أهمية لهم، ما كان يوفر العديد من السلع بأسعار معقولة.
تغول الاحتكار
ويبين صالح لـ "العربي الجديد" أن إغلاق المعابر ومنع دخول البضائع والمواد الغذائية والمساعدات الإنسانية فتح المجال واسعاً أمام تغول بعض التجار المحتكرين، الذين يقومون بتخزين البضائع وإخفائها عن الأسواق بهدف تحقيق أكبر نسبة من الربح، الأمر الذي بات يرخي بظلاله الكارثية على الأسواق، ويفاقم من سياسة التعطيش التي تنتهجها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الحرب.
ويشدد على أهمية تحرك الجهات المختصة وفي مقدمتها وزارة الاقتصاد من أجل حماية المستهلكين، ومعهم أصحاب المصالح التجارية الصغيرة، سواء المحال التجارية أو البسطات، حيث يعتبرون ضحايا أساسيين لسياسة الاحتكار وإخفاء البضائع التي يمارسها بعض التجار الكبار، وسياسة التقطير والتعطيش التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، مبيناً أن كلتا السياستين تساهمان في خنق الأسواق وتؤثران على الفلسطينيين.
أما الفلسطيني كارم أبو عفش فقد اضطر إلى إغلاق فرن الطين الشعبي والذي كان يعتمد عليه في توفير قوت أسرته من خلال صناعة الخبز البلدي وبعض أصناف المعجنات، وذلك جراء اختفاء المواد الخام الخاصة بعمله أو ارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق نتيجة إغلاق المعابر ومنع دخولها.
ويلفت أبو عفش لـ "العربي الجديد" إلى أن اختفاء الطحين (الدقيق) بفعل عدم تسليمه في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بسبب إغلاق المعابر سبّب ارتفاع ثمنه لأكثر من خمسة عشر ضعفاً، حيث وصل سعر الكيس الواحد ووزنه 25 كيلوغراماً إلى 400 شيكل (قرابة 110 دولارات)، علاوة على اختفاء أصناف الزيوت والأجبان، ووصول أسعارها إلى نسب غير مسبوقة، حيث ارتفع سعر زيت الطهو عشرة أضعاف، كذلك تضاعفت أسعار الأجبان والخضار والصلصة ومختلف مواد الخام المستخدمة.
نقص حاد في السلع
ويغلق الفلسطيني إيهاب أبو سيدو محله التجاري الخاص ببيع أصناف الكعك، وبسكويت التمر وحلوى الجوز هند والفستق واللوز والسمسم، بسبب الغلاء الشديد في أسعار السكر وهو المادة الخام الأساسية، إلى جانب اختفاء مختلف أصناف المكسرات ووصول أسعار بعض الأصناف ذات الجودة الرديئة إلى ما يزيد عن عشرة أضعاف.
ويوضح أبو سيدو لـ "العربي الجديد" أن الأزمة الاقتصادية بدأت منذ اليوم الأول للعدوان، إلا أنها تتفاقم نحو الأسوأ يوماً تلو الآخر، جراء تجمع الأسباب التي تؤثر على الأسواق نتيجة نقص البضائع والمواد الخام الأساسية، وعلى المواطنين جراء تضاعف أسعار المواد والمتطلبات الأساسية وتضاؤل قدراتهم الشرائية بسبب سوء الأحوال المادية.
من ناحيته، يلفت الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر، إلى أن الإغلاق الإسرائيلي التام للمعابر وتشديد الخناق يوماً بعد الآخر سبّب اختفاء العديد من السلع من الأسواق أو توفرها بشكل محدود لا يتناسب مع الطلب المتزايد جراء النقص، ما سبّب ارتفاع الأسعار إلى نسب غير مسبوقة جراء زيادة الطلب ونقص العرض.
ويبين أبو قمر لـ "العربي الجديد" أن الاحتلال الإسرائيلي منذ اليوم الأول للعدوان انتهج سياسة التعطيش من خلال إغلاق المعابر وتجفيف البضائع من الأسواق وإدخال شاحنات محدودة من البضائع التي لا تلبي حاجة السوق، وفق سياسة ممنهجة تهدف إلى الضغط على مختلف شرائح الشعب الفلسطيني، إلى جانب السماح بالتوريد لعدد محدود من التجار، الأمر الذي أتاح فرصة الاستغلال والاحتكار والتلاعب في الأسعار وفقاً لحاجة السوق. ويلفت أبو قمر إلى أن النقص الشديد في البضائع والارتفاع غير المسبوق في أسعارها يأتي في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية بفعل خسارة معظم الفلسطينيين في قطاع غزة لمصادر دخلهم جراء تدمير نحو 93% من القطاعات الاقتصادية الحيوية، الأمر الذي أثر على قدراتهم الشرائية، وأرخى بظلاله على الأسواق الخاوية من البضائع الأساسية.
ويعاني أهالي قطاع غزة ظاهرة غياب الاستقرار التي باتت تجتاح الأسواق، وذلك جراء عدم انتظام توفر البضائع، وعدم استقرار أسعارها التي تختلف على مدار الوقت، سواء بفعل الإغلاق الإسرائيلي للمعابر ومنع دخولها، أو تعمد بعض التجار إخفاء الأصناف الأساسية لمضاعفة أسعارها مع تزايد الطلب عليها.