يوسف شاهين.. مسيرة في أربع دوائر

27 يوليو 2014
لقطة من "عودة الابن الضال" (1976)
+ الخط -

"عايز أعيش بينكم بذاتي... لي شخصية وهوية" من أكثر الجمل المغنّاة في أفلام يوسف شاهين (1926 -2008) تعبيراً عمّا سعى إليه المخرج المصري في مسيرته السينمائية الطويلة والمثيرة للجدل.

لا شكّ أن شاهين، الذي تحل ذكرى رحيله اليوم، أسّس بأفلامه الكثيرة مدرسة لها خصوصياتها. وإن صفعت المشاهد أحياناً بغرابتها، إلا أنها لا بدّ أن تثير اهتمام أي باحث في المجال السينمائي.

الرحلة من فيلم "بابا أمين" (1950) إلى فيلم "هي فوضى" (2007)، طويلة وغنيّة ومتباينة، لا ترتكز على صنف فني واحد، أو تقتصر على مرحلة تاريخية واحدة، علماً أن ثمة ركيزة ثابتة وسط الأنماط الكثيرة والقضايا العديدة التي طرحها شاهين على امتداد أربعة أنظمة من الحكم في مصر، هي حساسيته المفرطة و"جنونه" الفنيّ. جنون أنتج تجارب متفاوتة في طبيعتها ومستواها، يصعب على أي مؤرخ للسينما تجاهلها.

يمكن قراءة تجربة شاهين السينمائية من خلال أربع دوائر رئيسية متّحدة المركز، هي: الذات والمجتمع والسلطة الداخلية والسلطة الخارجية.

الدائرة الأولى هي صراع شاهين مع نفسه، الذي يتجلّى خصوصاً في رباعيته الشهيرة: "إسكندرية ليه" (1978)، "حدوتة مصرية" (1982)، "إسكندرية كمان وكمان" (1990)، و"إسكندرية نيويورك" (2004). رباعية تلُخّص مسيرته وتجتمع فيها جميع مميزات عمله: الخيال/ الفانتازيا، والسوريالية الفيلينية (نسبة للمخرج فيليني) والديكور الغرائبي، والقفز الزمني بالأحداث والشخصيات المتمثلة بنساء حياته الثلاث: والدته، أخته، وزوجته.

ولا شك أن سيرة شاهين يختلط فيها الشخصي والعام، الفني والإنساني، العاطفي والوطني، وإن بأساليب غير واضحة دائماً للمشاهد العربي الذي اعتاد الحبكات والصيغ المألوفة والمستسهِلة.

الدائرة الثانية تتناول المجتمع وحال الإنسان فيه وعلاقته بمحيطه على اختلاف شرائحه، كما يتجلى ذلك في شخصية "قناوي" ذات التركيب الدرامي المعقّد في "باب الحديد" (1958) والتي مثّلها شاهين بنفسه، كاسراً أنماط الخير والشر المطلقين والرائجين في أفلام تلك الفترة. يعيش قناوي وسط مجتمع يتّهمه بالجنون والمرض، فيلوذ بنفسه مفتّشاً عن الحنان قُرب نساء جذّابات، سواء كُنَّ على صفحة مجلة أميركية أو على هيئة "هنّومة"، بائعة المشروبات الغازيّة في محطة القطار.

وبينما يقارب شاهين في فيلم "الأرض" (1970) حال الفلاح المصري وكفاحه للحفاظ على أرضه من جشع رجال الإقطاع، يتناول فيلم "الاختيار" (1971) طبقة المثقفين وزيفها بكثير من التعقيد والتداخل، في إشارة الى انفصام يتسم به المثقّف الفقاعيّ.

أمّا المثال الأكثر دمويّة في دائرة المجتمع، فهو فيلم "عودة الابن الضال" (1976)، الذي يسلّط الضوء على تهتّك الروابط الاجتماعية وموت الأجيال الأولى وتطلّع الشباب إلى المستقبل، ضمن تساؤل جاء على شكل أغنية بعنوان "مفترق الطريق" كتب كلماتها صلاح جاهين.

الدائرة الثالثة تتمثل في السلطة الحاكمة وأجهزتها، كما في فيلم "العصفور" (1974) الذي أوقفته الرقابة لعامين ولم توافق على عرضه إلا بعد حرب أكتوبر؛ ويطرح شاهين فيه قضية فساد النظام كسبب رئيس للنكسة، علماً أن هذا العمل لا يغرق في اليأس، إذ تظهر فيه ربّة البيت "بهية"، كمجاز لمصر، صارخةً بحرقة وأمل، بعد خطاب التنحي لجمال عبد الناصر، في أحد أبرز مشاهد السينما المصرية حول نكسة 1967: "حَـ نحارب!".

وفي السياق ذاته، ينخرط فيلم "هي فوضى" (2007) الذي يشكّل في أعمال شاهين التجربة الأكثر تماساً مع الواقع، والأكثر تحريضاً وتنبّؤاً بما سيستجدّ في مصر، وقد تقاسم شاهين إخراجه مع تلميذه خالد يوسف. وفي هذا العمل الذي يعتبره الكثيرون الأكثر تمثيلاً لثورة 25 يناير، ترجم المخرجان حالة السخط الشعبي على الأجهزة الأمنية، في مشاهد الجموع الغاضبة، والثائرة على الشرطي الفاسد والساديّ "حاتم"، الذي اغتصب "نور"، ابنة "بهية". ولا عجب إذن في اختيار شاهين صورة شرطي يشهر سلاحه في وجه المجتمع كملصق لهذا لفيلم. ملصقٌ استخدمه الكثيرون على صفحات الفيسبوك خلال الحراك الثوري الأخير.

أما في الدائرة الرابعة فتطرق شاهين إلى السلطة الخارجية المستعمِرة والنظام الدولي الهادف، في نظره، إلى تدمير المجتمعات العربية؛ كما في فيلم "الآخر" (1998)، الذي يفضح بذكاء علاقة الإدارة الأميركية بالجماعات الأصوليّة، من خلال قصة عاطفية تجمع بين الشاب "آدم" والفتاة "حنان"، وتمزقها "مارغرت" الأميركية، والدة آدم، بتآمرها مع شقيق حنان المنتمي إلى جماعة دينية متطرَفة.

ورغم علاقته الجيدة مع المؤسسة الفنية الفرنسية التي أثمرت العديد من الإنتاجات المشتركة مع جهات فرنسية، تناول شاهين أيضاً الاستعمار الفرنسي في فيلم "وداعاً بونابرت" (1984) الذي شدّد فيه على هزيمة نابليون أمام المصريين، وإن اعتبره بعضهم فيلماً فرانكفونياً. بخلاف فيلمه "جميلة" (1958) الذي خصصه لنضال الشعب الجزائري ضد فرنسا من خلال قصة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد؛ ناهيك عن أفلام كثيرة أخرى كسِيَره الذاتية التي كشف فيها خضوع الرأي العام العالمي لماكينة الصهيونية العالمية الدعائية.

تبقى تجربة يوسف شاهين، بين المخرجين العرب، حقلاً غنياً للبحث والتفكيك أيضاً. نفهم أفلامه وأحياناً لا ندري ما يبحث عنه "جو"؛ لكن ما هو مؤكد، أنها مسيرة لسينمائي عربي حاول أن يتحدث مع نفسه بصوت عالٍ ومعنا أيضاً.

المساهمون