تُقدِّم الترجمة العربية لـ رُباعيات عمر الخَيَّام من قِبل الشاعر المصري أحمد رامي، على لسان كثيرين، مثالاً صارخاً على مضاهاة الترجمة لأصلها، إن لم نقل انتصارها عليه. ويصعب أنْ نضع اليد بوضوح على مكامن نجاح هذه الترجمة؛ أيكون في اللغة الراقية، أم في التَّصوير الشعري، أم في الإيقاع العروضي، أم في الرسائل التأمُّلية الفلسفية المضمَّنَة فيها، أم في تضافر كل هذه المكوِّنات وإسهامها في بناء كلِّية شعرية مُدهشة، أم في "الوفاءِ" لأصلها؟
والمعروف أنَّ هناك من المتخصّصين في اللغة الفارسية من انتقد ترجمةَ أحمد رامي، أقصدُ العلَّامة محمد بن تَاوَيتْ التطواني (1917 - 1993)، أحد أعلام النقد الأدبي المغربي وأبْرز أساتذة الفارسية في الجامعة المغربية، والذي انتقد كثيراً ترجمةَ أحمد رامي، واعتبرها قولاً بعيداً كلّ البعد عن قصيدة الخَيَّام، لوجود كثير من الحذف والزيادة فيها وحتى التحريف، على الرغم من ذيوعها والتنويه بها، خصوصاً بعد أنْ غنَّتها كوكب الشرق أم كلثوم.
ويبدو أنَّ قصيدة الخَيَّام كانت محظوظة حقّاً، لكونها حظيتْ بعناية شاعر رومانسي رقيق من طراز أحمد رامي، الذي جسَّد في زمن غير رومانسي هو القرن العشرون طموحَ الرومانسية الألمانية، التي كانت تتطلّع - حسب شارل لوبلان - إلى "الارتقاء بالترجمة إلى مصاف فن الكتابة"، بل إنها كانت تحضّ المترجِم على أن يتحوّل "من مجرَّد ناقل للنص إلى مشارك فيه، يذهب فيه إلى حد إتمامه"، بل إنّ زعماء هذا المذهب حرّضوا على أن يكون المترجم "شاعر الشاعر"، وأن يهتمّ بإعادة "خلق العمل المترجَم الذي يُكمّل العمل عندما يترجمه".
لستُ أدري إنْ كان أحمد رامي قد اطلع على الرومانسية الألمانية، خصوصاً تنظيراتها في مجال الترجمة، لكن التوقُّف عند الاستشهادات أعلاه، والنظر في ما قيل في انتقاد ترجمته، يجعلنا ننظر إلى أسلوبه في الترجمة بصفته تجسيداً لمطالب الرومانسية الألمانية في هذا المضمار.
ولعلّ نظير هذا التصوُّر هو الذي اهْتَبله بعضُهم، فصار يَشترط في مترجِم الشعر دون باقي الأجناس الأدبية أن يكون شاعراً، بينما لا يذهبون إلى ضرورة أنْ يكون مترجِم الرواية روائياً، وقِسْ على ذلك مترجم المسرحيات والقصص وباقي أجناس الكتابة.
ولا غرو أنّ الترجمة الأدبية مغامرة محفوفة بالخسارة، لأنها تضع مجترِحَها مُسبقاً ودوماً في مواجهة الفشل، وتكون هذه الخسارة أكبر في حال الشِّعر، وهو الكلام الذي يؤكِّده الناقد الأميركي هارولد بْلوم في "عباقرة" بقوله: "يخسر الشعر العظيم أثناء الترجمة دوماً".
ونحن نَعْلم أنّ الجاحظ وجَّه موقف قارئِه من الشِّعر المترجَم، منذ قرون، بقولته الشهيرة في حق الشِّعر العربي: "والشِّعر لا يُستطاع أنْ يُترجَم، ولا يجوز عليه النقل؛ ومتى حُوِّل تقطَّع نظمُه وبطل وزنُه، وذهب حُسنُه، وسقط موضع التعجُّب، [لا] كالكلام المنثور"، على اعتبار أنَّ إعادة صياغة القصيدة في غير تربتها يُفقدُها المكوِّنات الفنية والثقافية التي تميِّزها عن غيرها، تلك المتمثِّلة في ما يُمكن إجمالُه في الإيقاع بكل تلويناته من وزن وتنغيم وترنيم، إلخ.
لكن المثير هو أنْ نجد مُترجِماً رفيعاً جدّاً هو الشاعر الفرنسي شارْل بودلير، صاحب "أزهار الشَّر"، والذي اشتُهِر بكونه مُخرِجَ القاص والشاعر إدغار ألان بو إلى الوجود، بفضل ترجماتِه التي تفوَّقت على أصلها، بشهادة من بلوم وبورخيس وسواهما، لم يُترجِم لـ إدغار أ. بو سوى قصائد قليلة، وركّز على سرده القصصي، فقد ورد في كتاب "في حوارII" لـ أُوسْغالْدُو فِرَّاري مع بورخيس؛ أنْ قال الثاني: "- أجل، إن ترجمة بودلير لآثار بو، بالطبع، أعلى من نص بو، ذلك أنّ بودلير كان يتوافر على حِسّ جمالي أَرَقَّ من بو، وبو بصفته شاعراً هو شاعر متواضع، على الرغم من أنه كان، بالطبع، رجُلاً عبقرياً".
لماذا تخلّى بودلير عن مواصلة ترجمة أشعار بو "المتواضعة" بالارتقاء بها فتتفوَّق الترجمة على الأصل نظير ما فعل بقصصه؟ أيكون قد اقتنعَ بفشل ترجمة هذا الجنس الأدبي مقارَنةً بالسرد؟ وهل تعذَّر عليه أن يكون شاعر الشاعر مثلما قد أفلح في أن يكون قاص القاص؟
ما يُقرّ به ه. بْلُوم هو أن بو "كسب كثيراً في ترجَماته. لقد أفلح بو في أن يستمر في الزمان، وصارت إزاحتُه مستحيلةً وكذلك نسيانُه".