استمع إلى الملخص
- **الحياة اليومية في ظل الحرب**: يتابع الناس الأخبار المليئة بالأكاذيب، والأسواق مزدحمة بالأطفال الباعة، والأسعار الجنونية تزيد من معاناتهم، مع غياب المسؤولين عن معالجة الأزمات.
- **البقاء على قيد الحياة**: الحياة في غزة أصبحت معركة يومية للبحث عن الطعام والماء والغاز، مع تساؤلات مستمرة عن المستقبل والنوم المتقطع بسبب القصف.
يوم آخر قد بدأ مع صوت أذان الفجر، إنه اليوم السبعون بعد المئتين من عمر حرب الإبادة الإسرائيلية علينا في قطاع غزّة، وقد تعودنا على الشعور بغصّة ومرارة في الحلق بمجرد أن تفتح عينيك بعد بضع ساعات قليلة من النوم المتقطع نتيجة القصف المتكرر علينا، الذي يطاول منازل المواطنين العزل دون أن تلوح في الأفق أية بوادر لانتهاء هذه الحرب الملعونة، أو تقترب أي هدنة إنسانية تمكن النازح من التقاط أنفاسه، أو حتى نسيان أو تناسي مشاهد القصف والدم النازف أو تضميد جراحه، أو إخراج جثث الشهداء التي تحللت تحت الركام. وأمام عمق تلك المأساة التي نعاني منها على مسمع ومرأى العالم بأسره ومنهم من هم إخوة لنا في الدين والقومية وأصدقاء يتفننون في بيع الأوهام لنا، فليس لنا إلا التوجه إلى الله والدعاء لوقف حمام الدم الهادر.
نهضتُ من فراشي وتوضأت وصليت الفجر ودعوت الله عز وجل أن يرحم شهداءنا، ويشفي جرحانا وينهي هذه الحرب المسعورة فلم نعد نعول إلا على الله، أما البشر فالكلّ يعمل لمصلحته السياسية دون النظر إلى هذا الشعب الذي يتعرض للإبادة الجماعية، فنتنياهو لا يريد وقف الحرب لأن نهاية الحرب تعني محاكمته على مسلسل الفشل الذي لعب بطولته وبجدارة، والمقاومة تتمترس خلف شروطها لإجراء صفقة التبادل. فليس من المنطق بعد هذا العدد الكبير من الشهداء والذي فاق الأربعين ألف شهيد وثمانين ألف جريح، أن نذهب الى صفقة تبادل أو هدنة لا تحقق الحد الأدنى من أهداف شعبنا.
فتحت المذياع لسماع آخر الأخبار، وكان أولها عودة رئيس الموساد والوفد من قطر ليعرض ما سمعه من الوسطاء على رئيس حكومته نتنياهو، فقد ذهب الرجل دون أي صلاحيات للتفاوض، كما هي عادة نتنياهو المتمثلة في أن يرسل وفداً ويسحب منه صلاحيات التفاوض، والهدف تخفيف ضغط الجبهة الداخلية عليه وإرضاء بايدن الذي يلهث لعقد صفقة تبادل ترفع ولو قليلاً من شعبيته المتهالكة وكسب الوقت وتمديد الحرب حتى وصول ترامب إلى سدة البيت الأبيض. أغلقت المذياع بعنف وقد عاد إلي قلقي وتوتري، فلم يعد بمقدوري سماع أكاذيب السياسة، وذهبت إلى السرير لأقتطع من الوقت ساعتي نوم إيماناً مني بأن الهروب من الواقع هو أفضل شيء أفعله.
ماذا لو حطت الحرب أوزارها، هل نستطيع أن نعيد هذا العدد الكبير من الأطفال إلى مقاعد الدراسة؟
إنها العاشرة صباحاً. ذهبتُ إلى السوق الذي يمتد من مدرسة الجاعوني إلى دوار أبو صرار في النصيرات، والمزدحم بالبسطات والبشر، فاليوم أصبح السواد الأعظم من الشعب باعة في السوق حيث لا مصدر للرزق سوى البسطة، وقد تحول أكثر من نصف أطفال المدارس إلى باعة على البسطات، أو باعة جائلين. وهنا يراودني سؤال لم أجد له إجابة "ماذا لو حطت الحرب أوزارها هل نستطيع أن نعيد هذا العدد الكبير من الأطفال إلى مقاعد الدراسة بعد أن ذاقوا حلاوة الربح وعدّ النقود؟".
وصلت إلى مفترق الزهور حيث يبدأ الزحام في السوق وإنجذبت بلا وعي نحو باعة الدخان لأسأل عن سعره آملًا أن تكون أسعاره قد انخفضت بعد ارتفاعها الجنوني في الفترة الأخيرة، ولكن للأسف فالأسعار تفوق الخيال إذ إن سيجارة "الكاريلا" يفوق سعرها المائة شيكل، وسيجارة "الإل إم" يفوق سعرها سبعين شيكلاً، فيما سيجارة الدخان الشامي بخمسة وثلاثين شيكلاً. نعم أنا أتحدث عن أسعار السيجارة الواحدة. وهذه الأسعار لا يستطيع أحد من الباعة أن يبيعها بهامش ربح أقل، وإلا لن ينال حصته من التاجر الكبير في اليوم التالي.
أمنيتي الوحيدة أن أغطّ في نوم عميق يخرجني من هذا الواقع الأليم
ويراودني سؤال أكثر ألماً لا ينفك يشعرني بالصداع "من المسؤول عن حالة الغلاء هذه؟"، "ومن المستفيد؟"، "وأين القانون؟" و"أين وزارة الإقتصاد من كل هذا؟". أسئلة بديهية لكن بلا إجابة.
ألا يعلم المسؤول أن معدل الجريمة والسرقة قد ارتفع بشكل كبير نتيجة هذا الغلاء في أسعار الدخان، والدليل على ذلك أن من يستطيع شراء سيجارة هو السارق والذي يحصل على المال دون عناء، إما التاجر أوالموظف، أما أمثالي فلا يستطيعون شراء سيجارة كل أسبوع.
إن كان الدخان رجسا من عمل الشيطان ورفع أسعاره فيه مكافحة للشر ودعم للخير فلماذا يطاول الغلاء قوت الناس اليومي مثل الخضار والخبز والفاكهة واللحوم المجمدة، حيث تباع بأضعاف أسعارها فيما راتب الموظف لم يعد يصمد عشرة أيام في أحسن الأحوال؟ السوق مزدحمة بالناس والكثيرون يقفون أمام البسطات يسألون عن الأسعار، وقلة قليلة من تشتري.
عدتُ إلى المنزل بكيس أغراض لم يتجاوز الثلاثة كيلو غرامات من الخضار، والتي هي من ضروريات الحياة لنبدأ رحلة الطبخ، في السابق كنت أعود للبيت بعشرات الأكياس المليئة بعشرات الكليوات من عشرات الأنوع من الفواكه والخضار.
نعم في غزة الآن الرجال هم المسؤولون عن الطبخ، لأن النساء في معظمهن لا يُجدن إشعال النار، فغاز الطهي منذ شهور لم يدخل معظم المنازل والمحظوظ هو من نجح في ترك أنبوب الغاز لدى الموزع حتى يأتيه الدور بعد أيام أو أسابيع. وقبل أن تنتهي من رحلة الطبخ عليك الإسراع لوضع أوانيك في طابور المياه لملئها وإلا ستقضي بقية يومك وليلتك بدون ماء، ويجب ألا تغفل عن مياه الشرب وشحن البطارية لإضاءة "لدات" الإنارة وإلا ستقضي ليلة معتمة، وكل هذا يجب ألا يلهيك أو ينسيك طابور الخبز للحصول على ربطة خبز.
وعليه فالمواطن هنا يصول ويجول طيلة يومه فقط من أجل البقاء على قيد الحياة، وبحلول الظلام تجلس لتحاول أن تجد إجابات عن التساؤلات المرهقة التي تدور في رأسك منذ شهور وأهمها بالطبع: متى ستحط الحرب أوزارها؟ متى ستنتهي هذه المعاناة؟ هل سنصبح مع الأحياء أم في عداد الشهداء؟ من استشهد اليوم؟ ومن نزح؟ وإلى أين؟
ثم ها هو النوم يداعب جفوني وقبل أن أغط في نومي لأستفيق منزعجا على صوت قصف أحد المنازل، وهكذا أقضي ليلتي بين صوت قصف المنازل والمدافع وطائرة الاستطلاع وبين أمنيتي الوحيدة المتمثلة في أن أغطّ في نوم عميق يخرجني من هذا الواقع الأليم.
* ممثل من غزّة