استمع إلى الملخص
- تتناول الرواية العلاقة بين بول أوستر وهنري ميلر وتجربتهما في باريس، مع التركيز على دور الصدفة والمفاجآت في تغيير مسار حياة الكاتب، وكيف يمكن للأدب مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية.
- تبرز الرواية الفجوة بين السِّيَر الذاتية الغربية والعربية، مشيرة إلى أهمية توثيق العلاقات الإنسانية والاجتماعية في السِّيَر الذاتية الغربية، مما يعكس الحاجة لتطوير الكتابات العربية.
في رواية "تباريح العيش" سيرة ذاتية، أو سيرة الشباب الخاصة بالروائي الأميركي بول أوستر (1947 - 2024)، هناك ذِكرٌ لكلّ من وقف بجانبه في السنوات الحرجة التي تؤرّخ لتحوّله إلى كاتب.
يذكر هؤلاء بأسمائهم الثنائية، أو الثلاثية، ليؤكّد على وجودهم الحقيقي في حياته، ويضمّنه شهادته، ويضع عنده علامة. أثناء قراءتي للرواية كنتُ أتوقّف أيضاً أمام كلّ اسم، وأُدير محرّك البحث "غوغل"، بحثاً عن حياة صاحبه، إن كان مجهولاً، سواء كان كاتباً أو ناشراً، أو أحد أفراد العائلة، أو تربطه بالكاتب علاقة ما جعلته يذكر اسمه، أيّاً كانت أهمّيته، فكلّ اسم مذكور يلعب دوراً ويشغل حيّزاً داخل هذه السيرة. أغلبهم بالطبع كانوا ينتمون لعالم الأدب، الكتابة والنشر، سواء في أميركا أو فرنسا، حيث قضى بها بول أوستر ثلاث سنوات من 1971 حتى 1974.
أُراقب دقّتي في استقصاء ماهية كلّ اسم من شجرة الأسماء هذه. تُنمِّي هذه النوعية من الكتابات حاسّةً جديدةً في التقصّي، والدخول في عوالم جانبية، لأشخاص مجهولين، فتتّسع دائرة الضوء من حول المؤلّف. نفس السلوك اتّبعتُه عند قراءة "مدار الجدي"، و"الصلب الوردي"، وغيرهما لـ هنري ميلر (1891 - 1980). كنت أتعقّب الأسماء، التي كان يذكرها غالباً بالاسم الأول، فقط، أو لقبها، وأحيانا بكنيتها مثل "أبو السريالية" في إشارة لأندريه بريتون. كلُّ اسم كان يمثّل حلقة في جماعة، وهو ما كان يهمّه، في أربعينيات باريس أو نيويورك، الحلقة أكثر من الفرد، فكان يسبغ عليهم من إنسانيته ويكشف عن جوهرهم النقي.
■ ■ ■
لماذا قفز اسم هنري ميلر وأنا أكتب الآن بينما في نيّتي الكتابة عن بول أوستر؟ ربّما للتشابه فيما بينهما، وللمواساة التي يقدّمانها في كتابتهما لقُرَّائهما، وأيضاً بسبب شجرة العرفان الإنسانية التي يطرحانها في كتبهما واعترافهما بدَين هؤلاء البعيدِين الذين وقفوا بجانبهما، في تلك الرحلة الصعبة قبل أن يكونا كاتبين، بالإضافة لاختيار باريس، فأهمّ سنوات ميلر، ثم أوستر من بعده، قضياها في باريس، بعيداً عن نيويورك الصاخبة والمتوحّشة.
ربّما ليست صدفة أنّ هناك رابطاً أبويّاً بين ميلر وأوستر، من ناحية التسكُّع والحكمة والزهد في ممارسة الحياة ليأتي الأدب نتاجاً لهذا الرحلة، ليقف ضدّ النموذج الأميركي في التفوّق، ويكشف عن شجرة النسب التي رعت وظلَّلت موهبة كلٍّ منهما.
بالرغم من نشأة الاثنين في مركز الرأسمالية، ولكن هذا النظام أوجد هذا النوع من المُساعدات والهبات والمنح، والدعم المعنوي، والمفاجآت، التي يمكن أن تغيّر حياة الكاتب، كالحاوي هناك ما يخفيه خلف ظهره، ويُمكن أن يغيّر به حياة صاحبه من النقيض للنقيض. غالباً ما يأتي الفرَج للكاتب في لحظة "الصفر" المعنوي والمادّي معاً، لتبدأ بعدها، دورة جديدة في الصعود والطفو. فالصفر الأميركي، أو درجة الاحتياج القصوى التي لا تسندها إلّا الموهبة، كما نراه في هذه السِّيَر يخفي خلف ظهره المفاجأة دوماً، ولولاها ربّما ما كان سيظهر بهذه الكثرة في السِّير الذاتية، وما عليك، أنت الكاتب، إلّا أن تتحمّل الأعراض الجانبية لهذا "الصفر" من أجل الكتابة.
■ ■ ■
ربّما تحوُّل الكتابة إلى مهنة، منذ بدايتها في أوروبا وأميركا على الأخصّ، وسَّع من دائرة هؤلاء الذين يريدون أن يُكفّروا عن ذنوب الرأسمالية بأن يرعوا الكُتَّاب والموهوبين، ويمدُّوا لهم يد العون، كي يقوموا مكانهم بنقد هذا المجتمع المتوحّش، ووقوفهم بجانب أيّ رحلة كفاح تبدأ من "الصفر"، والوصول بها للقمّة، فهذه الرحلة أيقونة من أيقونات النجاح في المجتمع الأميركي.
ربّما تسبّبت الرأسمالية في هذا النوع من السِّيَر الذاتية، وبكلام هيغل "الرواية ملحمة الحياة البرجوازية"، في شكل بديل يكشف العلاقات والصراع الذي يتكوّن من حولها، أو ضدّها، فالرأسمالية هنا، في "تباريح العيش" و"مدار الجدي"، على سبيل المثال، محكية بوصفها سيرة ذاتية حتى ولو كانت سيرة مضادّة لها.
الملاحظة اللافتة بالنسبة لي، بالرغم من سيطرة حالة التأمّل الباطني لكلا العملين والكاتبين، ولكنّ كليهما مفتوح على عالم خارجي يختار منه علامات وأسماء ومواقف، يُعيد بها تكوين هذا العالَم الرأسمالي متأثّراً به ومؤثّراً فيه، ثم يأتي قارئ عربي مثلي، فيرى هذا العالَم المتوحّش بعين مصفاة حقيقية تضع الكاتب في مكانه الحقيقي داخل هذه المنظومة. كنتُ أتساءل وأنا أقرأ، كيف تحوّل هذا التعب والصراع إلى عسل، والتراب إلى ذهب، فالتحوّل ليس حيلة روائية، ولكن هناك رحلة سيظل الكاتب هو وسيطها الفعَّال.
■ ■ ■
قليلة هي السِّيَر الذاتية العربية التي تكشف عن هذه الشجرة من الامتنان من الكاتب لهؤلاء الذين وقفوا خلف الرحلة. لا يوجد في الكتابات العربية مثل هذا السجلّ الأرشيفي. الماضي المهني منسيٌّ أو مُستثنَى من أولئك الذين يقفون في الظلّ. هناك كاتب فرد بلا خيوط تخرج منه وتربطه بغيره، والرحلة مُجتزأة، والأنظمة الاجتماعية التي تحوّط به غائبة، لا أثر اجتماعيا، أو نسَبا خارج الكتابة، إلّا فيما ندر، وصِلة مقطوعة بينه وبين الحياة أمام القارئ، فالنَّصُّ هو الحياة.
هناك غموض يحوط بالعالم المحيط بالكاتب باستثناءات قليلة، مثل رحلة توفيق الحكيم في "سجن العمر" على سبيل المثال، وحديثه عن عالم الملحّنين الذين احتكّ بهم وتعلّم منهم في بداية كتابته للمسرح. كان هناك عالم داخلي وخارجي موصولَان ببعضهما البعض، تتكوّن فيه الروابط الحُرّة بين أفراد هذا المجتمع الثقافي فتجد كامل الخلعي جالساً معه على المقهى بالقبقاب، أو هناك ذكر لداود حسني وسيّد درويش، وفرقة عكاشة المسرحية.
كان شكل التسكّع الأدبي آنذاك، ليس ضدّ المستعمر فقط، ولكن لصالح قيمة إنسانية أن يكتشف إلانسان الفرد الكاتب عن جوهره الآخر عبر الدخول في حياة الآخرين، وكسر الحواجز فيما بينهم، وبناء روابط اجتماعية وإنسانية جديدة، عبر هذا التسكّع، وبناء الذات بداية من الصفر.
أيضاً الاقتراب من الحياة الهامشية - عبر كسر مفهوم الغيتو الثقافي - للمجتمع والتصالُح معه، هنا يكتسب الحكيم وجهه الآخَر، أو الاهتمام الإنساني بالآخَر وإدخاله في رابطة جديدة تقام حول الكتابة التي تظلّ تمنحه هذه التعدّد في الرؤية، فهو يحمل مجتمعه وطبقته وأناه، وبجواره تماماً الأنا الأُخرى التي تصَالح معها عبر هذا التسكُّع الفنّي المفتوح. فالتسكُّع الفنّي يكمن داخله الآخر الجدلي المعاكس للأنا، كي لا تهدأ، وتظلّ في حوار دائم معها، يبعدها عن الثبات. فالتسكّع هو ما أفرزه هذا النظام باختلاف المكان.
■ ■ ■
هناك أيضاً الكاتب المغربي محمد شكري في سيرته التسكّعية "الخبز الحافي"، وفي كتابات طنجة عن بول بولز وتينسي وليامز وغيرهما هؤلاء الذين غيّروا من نظرته للحياة، فمنحهم التقدير ودخلت أسماؤهم إلى نَصّه، أمّا الباقون، باستثناء أُمّه، فكانوا يقفون موقف العِداء منه، وسط المجتمع الليلي فكانت الروابط مقطوعة معهم تماماً.
ربّما من دواعي ذِكر محمد شكري لهؤلاء، أن العِرفان بالدَّين لم يأتِ من موقف الندِّية، بل لأنهم كانوا في موقف القوة ويمتلكون الشهرة وأي علاقة بهم أو كتابة عنهم، ستكسب صاحبها بعضاً من شهرتهم. وهو ما حدث بعد ذلك عندما انقلب شكري عليهم بعد أن نال الشهرة، وتحوّلت رحلة العرفان إلى قَصاص، كأنّها قصاص من حياته نفسها ومن ماضيه، ووجب التنصُّل من الماضي، الذي هو جزء غير مُحبَّب، مُفرغ من الحقيقة، في السِّيَر العربية. كأنّه يقتل كلّ من شهد على مأساته. فكان حضورهم داخل نصّه مؤقّتاً، لأن مصيبته في حياته كانت أفدح، لا مكان فيها للاعتراف بالجميل، فالقهر أخفى هذا الجانب، وربّما أخفى معه الفضاء الاجتماعي والإنساني، غير المقهورين، الذي كان يعيش وسطه الكاتب.
■ ■ ■
ربّما انفتاح الكاتب الغربي على توثيق المشهد من حوله، جعلنا نحن القرّاء العرب نتعمّق أكثر في الواقع الأدبي للغرب وندرس تحوّلاته بدقّة، من خلال هذه الكتابات وتلك الأدلّة التاريخية والأرشيفية على عصور ما، لترى هذه الكوادر الإنسانية، التي تؤطّر التجربة.
ربّما هذا تقصير منّا نحن القرّاء، ولكنّه طويل الأمد، وقد أتى تأثيره بالفعل وأصبحنا نرى أنفسنا وحياتنا وتأمُّلنا وسط حياة أُخرى، أو واقع آخر. قنعنا بأن هناك واقعَين أدبيَّين من الصعب المقارنة بينهما، يفتقدان شروط المقارنة، وأصبحنا نُعيد النظر إلى أنفسنا في مرآة غيرنا وواقعه ثم نعكسه على واقعنا. لا أعرف كيفية الخروج من هذا المأزق؟
تظلّ علاقتنا بالتاريخ الأدبي ضعيفة لأنها تأتي من مصادر أُخرى غير الكاتب، ومع ضعف الأبحاث التي تؤرّخ لمِثل هذه السِّيَر، وتدرُسها. فيعود فقرُ النَّص الأدبي الخاص بالسيرة الذاتية وافتقاره لمعلومات أصبحت أساسية وجزءاً من تكوينه؛ على ذاتية كاتب بلا تجارب إنسانية عميقة توسّع منها وتكسبها التعدّد.
فاحترافية الأدب وتحوّله إلى مهنة، حتى ولو كان التسكُّع الوجودي والجغرافي، أحد أوجهها؛ له دوائر من السلطة تتحكّم فيها، وتمنحها بعض الدقّة، عبر إدخال التوثيق التاريخي، على سبيل المثال، بما هو جزء من هذا النوع الأدبي، لاستمراره، ولكشف هذه الجوانب الإنسانية داخل المجتمع. هذا غير منفصل عن سياقات نموّ العلوم الإنسانية الأُخرى وتطوّرها التي تُحيط بهذا النص الأدبي السِّيري. نصّا ميلر وأوستر يتحوّلان إلى وثيقتين تاريخيتين حول ثلاثينيات وسبعينيات نيويورك وفرنسا، ويلقيان الضوء على اتجاهات الحركات الأدبية الجديدة، وما يدور حولها من أفكار.
* شاعر وكاتب من مصر