وسائدُ الفُتور

07 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني شادي الزقزوق
+ الخط -

نَحنُ الرصاصُ الموهوب، ناهبو سُفنِ الأبجدية، المُحتضَرونَ في الملاجئ، مُعتنقو الحُرية، الّذينَ يجهلونَ مزايا الخُنوع، نَحنُ البكاءُ الّذي يَركضُ في الشّوارع، المُشعوذونَ العاجزونَ عن استحضارِ حكاياتِ الضّعف.

نَحنُ المُعلَّقةُ أفئدتُهم بالأماكنِ والمساكن، المُخزنةِ عقولُهم بالأسماءِ والصّور، المحتفظونَ بالذّكرى والذّكريات، نَحنُ مجانينُ غزّةَ المتيمونَ بها، الّذينَ يَميلونَ إلى كلِّ ما يُوصلُنا إليها؛ غزّة المبطنة بحريرِ السّلام. نُسافرُ مع ما لدينا مِن حنينٍ لماضٍ خُطِفَ منّا رغمَ بقائه، لنا سماؤنا التي فرشناها أحلاماً ووروداً بلا رائحةٍ تطيرُ في دهاليزِ الأحزانِ الشّرقية، لنا أرضُنا الّتي خلدنا فيها ما أهداهُ اللهُ لنا مِن أيامٍ نَعيشُ فيها حتّى اللّحظة رغمَ صدورِ حُكمِ الإبادةِ بحقنا.

نَحنُ المُنهكةُ أرواحهُم كجواربِ مُتسول، كبطاريةٍ خاويةٍ مِن الطّاقة، المُتوسلونَ إلى اللهِ أنْ يَهبنا فَرَجاً قريباً يُحيي أرضَنا ويُداوي أجنحتَنا الّتي أكلَها الصّدأُ والعثّ، نَحنُ الأمانُ الخائف، والخوفُ الّذي يُرعِبُ الأعداء. نَحنُ القلبُ الرّائف، أعداءُ الشّغفِ الزّائف، أصحابُ الوعدِ والعهد، القابلونَ بقضاءِ اللهِ وقدره. نَحنُ العطاءُ المَخذول، ونافذةُ الأُفقِ المُغلقة، زهرٌ جاروا عليهِ بالذّبول. نَحنُ الحِبرُ الّذي تَحوّلَ إلى بحر، والأصابعُ الّتي تَحوّلَت إلى قوسِ قزح، والأحزانُ الّتي تَحوّلَت إلى عصافيرَ اختارَت الحُبَّ في كلِّ شيء.

نَحن مجانين غزّةَ المتيمون بها، الذين يميلون إلى كلّ ما يوصلنا إليها؛ غزّة المبطنة بحرير السلام

كسفينةٍ تَغرقُ في بَحرِ الأسى، أَتحسّسُ ظُلمةَ اللّيلِ تارةً والطّريقَ تارةً أُخرى، أجرُّ أَقدامي المُثقلةَ بالخوفِ قبلَ بُزوغِ النُّورِ لعلّي أَتنهدُ الزّمنَ في طابورِ الخُبز. كانَ الفجرُ مُصفَرّاً وحزيناً كالعادة، المصابيحُ مكسورةٌ كعيونٍ مَفقوءة، والجُثثُ مُمددةٌ على الأسفلت، والأسفلتُ مثقوبٌ بفعلِ القذائفِ العمياء.

وَصلتُ وضرباتُ قلبي عويلٌ صامت، وصوتُ مَن سَبَقوني صرخاتُ استغاثة، والكلابُ مِن حَولي تُطلقُ شهقاتِ الرّعبِ ولهاثَ الجُوع، فَرشتُ جسدي واقفاً، وأطفأتُ لساني وهيأتُ أنفي لاستقبالِ رائحةِ مَن يقفُ أمامي، وبَدأتُ أستمعُ لثرثرةٍ تَسطو على أذني كالقيء. إنَّهُ الذّلُ في أبهى صوره، رحلةٌ إلى جهنّمَ دونَ ذَنْب، اعتقالُ ذاكرةٍ رجيمة.

بعدَ ستِّ ساعاتٍ مِن اللّامُبالاةِ بالمكان، واحتراقٍ للجرحِ الشّاسعِ الّذي شَهِدَ حالاتِ الخلافِ على ترتيبِ الطّابور، وإدمانِ سماعِ الشّتائمِ بأنواعِها، أضاءَ اليقينُ روحي، وأصبَحَتْ عيني صافيةً كعينِ العاشق، واصطفَّ النّبضُ تحتَ جلدي أكثرَ مِن مرّة. لقدْ حَصلتُ على الخُبز، بعدما فَقدتُ أسناني، وعُدتُ كسلسلةِ انفجاراتٍ وحزامٍ ناريٍ لأُطعمَ أطفالي، الّذين نَهشهُم الجوعُ منذُ يومين. كالغيومِ اللّامتناهية، وبمزيجٍ سوريالي مِن الموتِ والحياةِ رُحتُ أُفكرُ في المرّةِ القادمة.

لم تأتِ هذهِ المرّة إلا بعدَ أشهرٍ مِن انقطاعِ المخابز عن العمل، فجأةً ودونَ أيِّ إرهاصاتٍ سابقةٍ علِمتُ مِن أحدِ جيرانِ النّزوحِ أنَّ المخبزَ الّذي سُرقَت محتوياته، بسببِ غيابِ الرّقابة، وقلةِ حيلةِ النّاسِ وجوعِهم قَد عادَ للعملِ مِن جديدٍ هذا الصّباح. هرعَ النّاسُ وأنا معهُم لعلَّنا نستطيعُ أنْ نَحصلَ على بعضِ ترياقِ الحياة، رغمَ توافرِ القليلِ مِن الدّقيقِ في خيامِنا، لكنَّ صعوبةَ توفيره، ونُدرةَ الحطبِ وغلاءَ ثمنهِ كانَ سبباً كافياً لتحمُّلِ ما يُمكن أنْ يحدثَ عندَ المخبزِ مِن التّزاحم.

الآنَ فهمتُ جدولةَ الأعوامِ وكيفَ كانَ أجدادي يَشتعلونَ كقنبلةٍ يدويةٍ تُهددُ العالَمَ بالانفجار

وصلتُ والاغترابُ يملأُني بالدّمع، فكانَ أمامي المئاتُ مِن النّاسِ المُنكبينَ على الوطنِ طعناً بالخناجرِ والمخالِب، دخلتُ معهم في سباقِ الخيولِ المُروضة، تركلني أقدامُهم دونَ أنْ أتذَمر.

خلالَ فترةِ الانتظار، الّتي تَحوَلتُ فيها إلى سحابةٍ تُحلّقُ فوقَ معاركِها وقتلاها، جاءَ اتصالٌ لأحدِ الواقفينَ معي مُباغِتاً كلصٍّ يَتحسسُ المَصابيح.
-     ألو ، آه يا أحمد، خير ماذا هناك؟
-    ماذا تقول؟ كيف؟ ولماذا؟ لا حول ولا قوة إلا باللّه، رحمه الله، وعوضنا عوض خير.
-    لا لا، أنا في طابور الخبز، اذهب أنت وادفنه.

أغلقَ الرّجلُ هاتفَه، ذاهباً بأسئلتِنا الخجولةِ إلى ما وراءِ الأُفق، وقبلَ أنْ نسألَ جاءَ أحدُ معارفهِ ليرويَ لهُ حكايةَ قصفِ منزلِ أخيهِ وموتهِ وأنَّ مَن باغتهُ بالاتصالِ هوَ أخوهُ الثّالث. يا إلهي!! أيُّ حربٍ هذهِ الّتي أهدَتنا الكسلَ ووسائدَ الفُتورِ واللّامبالاة؟ وأيُّ اعتيادٍ على الموتِ هذا الّذي كلّسَ مشاعرَنا لنُفاضلَ بينَ الحُصولِ على لُقمةِ العيشِ ودفنِ أحبائنا؟

الآنَ فهمتُ جدولةَ الأعوامِ وكيفَ كانَ أجدادي يَشتعلونَ كقنبلةٍ يدويةٍ تُهددُ العالَمَ بالانفجار، الآنَ فهمتُ معنى الوقوفِ في المصاعدِ الخشبيةِ العريقة، الضّيقةِ كالتّوابيتِ للصُّعودِ إلى السّماءِ دونَ تَشرُّد، الآنَ فهمتُ قهرَهم الّذي لَم ينتهِ مُنذُ هِجرَتهم حتّى وافَتهم المنية، الآنَ اكتشفتُ معنى عبارة (إلى الأبد)، والتّوغلَ في الصّمتِ عندَ مُمارسةِ دورِ الأخرسِ في جزيرةٍ خاوية.

قبلَ أنْ أفهمَ كُنتُ أركضُ فوقَ الأيامِ والطُّرقات، تركبُني كلُّ وسائلِ المُواصلاتِ في الكوابيس. يُراودني سؤال: كيفَ لمشاعرَ مرّت عليها عقودٌ مِن الزّمنِ أنْ تعيشَ معنا دونَ أنْ تتلاشى؟ كيفَ كانَ يَبكي أجدادُنا على أمجادِهم البسيطةِ وحياتِهم البدائيةِ رغمَ أنَّهم استبدلوها هُم أو أبناؤهم بما هوَ أفضل منها؟ كيفَ يتحولُّ النّعيمُ الجديدُ الّذي استبدلوهُ إلى جثةٍ زرقاءَ في كوابِيسهم لا يَتذوقونَ حلاوَتها؟ 

الآن، وبعدما جربتُ النّزوحَ والتّهجير، شعرتُ بقسوةِ المشاعرِ الّتي تتضخمُ كلَّ يومٍ وأنا بعيدٌ فيهِ عن بيتيَ البسيط. شعرتُ كيفَ أموتُ مرّاتٍ عدةً مع كلِّ دخولٍ للضّوءِ الشّتائي الخَجولِ إلى الخيمة، شعرتُ بدخولي إلى مشرحةِ اللّامُبالاةِ في حانةِ الحاضرِ مع كلِّ تسولٍ على أبوابِ المجاعة. لقد كانوا على حقٍ ولا يزالون، حينَ ورَّثونا الحُزن، وصلَبونا على عقاربِ السّاعةِ كلَّما سَكَبَت غزّةُ مياهَ بحرِها المالحِ في حناجرِنا، عبثاً تُعلّمُنا مدرسةُ النّزوحِ أنَّ الصّبرَ مفتاحُ الفَرَج، وأنَّ القادمَ أجملُ مِن الماضي، عبثاً نُداوي الخيباتِ المَطعونةَ بالخذلان، فلقد ارتكبنا خيانةَ حُبِّ الوطنِ وادّعينا أننا قادرونَ على إنجابِ البُكاء.

أيا محمدُ خُذنا إلى الغار...
أيا عيسى خُذنا إلى السّماء...
أيا يونسُ خُذنا إلى بطنِ الحوت...
أيا موسى شُقَّ بنا البحر... خُذنا إلى سيناء...
أيا مريمُ البتولُ خُذينا إلى زكريا... خُذينا إلى نخلةِ المخاض...

خُذونا جميعاً حيثُ الدّينُ بلا ردّة، حيثُ هويةُ الرّسلِ الحقيقية، خُذونا حيثُ لا سماسرةَ للدّين، ولا ذُبابَ للإنسانية، خُذونا لنميزَ الخبيثَ مِن الطّيب، حيثُ لا طوابيرَ للحصولِ على الطّعام، حيثُ لا مفاوضاتَ على الموت، ولا مساومةَ على الحياة. حيثُ لا خطوطَ للحُزن، ولا بزاتِ واقيةً مِن الرّصاص، ولا وجعَ متناثراً للأُمهات...

أيا بلادَ الفسقِ خُذينا إلى الحرية...

أيا بلادَ الطُّهرِ المُقدسِ خُذينا إلى اللّاعودة...

خُذينا جميعاً حيثُ الحبيباتُ اللّاتي ينتظرنَ العُشاقَ تحتَ الجُدران، حيثُ الأفلامُ الممنوعةُ مِن العَرض، حيثُ حاناتُ النّبيذِ الرّخيصة، حيثُ الرّاقصاتُ المُعتمرات، ومعاهدُ تعليمِ الرّقصِ للذّكور، حيثُ لا وطنَ نَدفعُ ثَمنَ البَقاءِ بهِ مِن أوجاعِنا، ولا سماسرةُ الوطنيةِ يُتاجرونَ بدمائنا. 

ثمَّةَ محطاتٌ للقطارِ خرساء، وثمَّةَ أبوابٌ لا ثُقوبَ لها، خلفَها يُضاجعُ ثوارُ الوطنَ باسمِ البُندقية، وبيادرُ تُوزعُ الجوعَ على الأطفالِ بلا هوادةٍ باسمِ الصّمودِ المرهونِ بالخلاصِ الأخير. 

ثمَّةَ ابتساماتٌ مغدورة؛ ابتسامةُ الرّجلِ المُغبرِ بالدّقيق، ابتسامةُ الطّفلِ الفائزِ بوجبةٍ رديئة. وثمَّة بكاءاتٌ مُؤجلة؛ بكاءُ العجوزِ الّذي يَلعنُ الأجيال، بكاءُ الثّكالى اللّاتي لا يَجِدنَ الماءَ للاغتسال. 

الخوفُ خُلِقَ هُنا...

الموتُ خدعةُ النّجاةِ هُنا...

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون