استمع إلى الملخص
- مجلة "الدراسات الفلسطينية" خصصت ملفاً خاصاً لوليد دقّة، أعدّه الباحث عبد الرحيم الشيخ، يتضمن مقالات وكلمات تبرز دور ثلاث نساء من ثلاثة أجيال مختلفة.
- عبد الرحيم الشيخ يستعرض ثلاثة نصوص لوليد دقّة تعكس تحولات الحركة الوطنية الفلسطينية ومعاناة الأسرى الشهداء، وتنتقد أنظمة الرقابة والسيطرة في السجون الصهيونية.
في الخامس والعشرين من يوليو/ تموز الماضي، رحلت الحاجّة فريدة دقّة، بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر ونصف على استشهاد ابنها الأسير والمفكّر والروائي الفلسطيني وليد دقّة (1961- 2024) في سجون الاحتلال، إثر إصابته بسرطان التليّف النقوي، وبعد ثمانية وثلاثين عاماً وأربعة عشر يوماً على أَسره. ثمّ انتشرت لهما صورة قديمة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تعانق فيها الأُمّ ابنها بعينَين دامعتين، وعلامات الرضا تعلو وجه وليد الشابّ حينها. وقبل رحيل الأُمّ بأيّام، كانت مجلّة "الدراسات الفلسطينية" قد خصّصت ملفّاً ضمن عددها (139) الصادر حديثاً، أعدّه الباحث والأكاديمي عبد الرحيم الشيخ تحت عنوان "وليد دقّة: كتابات متأخّرة"، استذكاراً للقيادي في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وعضو اللجنة المركزية في "التجمّع الوطني الديمقراطي"، والذي ما زال الاحتلال يحتجز جثمانه إلى اليوم.
تستوقفنا في العدد كلمات زوجة الشهيد الفلسطيني، سناء سلامة، التي عنونت مقالها بـ"ميلاد الحلم واستمراره"، وهنا نقف أمام ثلاث نساء من ثلاثة أجيال مختلفة: فريدة وسناء وميلاد التي وُلدت من نطفة مُحرَّرة في الناصرة عام 2020. لكلّ واحدة منهنّ حكاية مديدة في مقارعة الاحتلال، لقد عبرنَ إلى الواقع مع وليد وحاذَين مسيرته النضالية. تكتب سلامة: "كلّ شيء انتزعناه من الدنيا انتزاعاً، فأصبح لكلّ شيء معنى خاص، ولكلّ فترة مررنا بها حكاية تُروى، نرويها لأنفسنا وللناس، ودُرَّة الحكايات هي ميلاد، ومع أنّنا، ميلاد وأنا، سنُكمل هذه الحياة غير السَّهلة وحدنا مع طيفك، إلّا أنّك ستبقى معلّمنا الأول، وسنتبع خُطاك وأحلامك".
بالعودة إلى الملفّ، وإلى مقدّمته الضَّافية التي كتبها عبد الرحيم الشيخ حول ثلاثة نصوص لدقّة ("صمت القبور، و"حكاية سر الطيف"، و"ما بعد صهر الوعي")، أو الكتابات المتأخّرة التي دُوّنت بين 2003 و2023، نجد الشيخ يتحدّث عن "الجغرافيا السابعة" التي يسكنها وليد دقّة، فهو ما زال أسيراً حتى بعد استشهاده. أسيرٌ لا في الزنزانة هذه المرّة، بل في "ثلّاجة" المشروع الاستعماري الذي يحتجز جثمانه، أمّا الجغرافيات الستّ المتبقّية فيتوزّعها الفلسطينيون بين: القدس، والضفّة الغربية، وقطاع غزّة، وفلسطين 1948، والشتات، والسجون. لنتخيّل، هُنا، ومن باب المجاز طبعاً، أنّ وليد دقّة احتفظ بسيرته هي هي لكنّه لم يكُن فلسطينياً، ولنتصوّر كيف كانت أُمَّته أو وطنه ليتعاملا مع هذا المفكّر الشهيد، وأي رمز أُممي كان سيصير.
أسيرٌ لا في الزنزانة بل في "ثلّاجة" المشروع الاستعماري
النصّ الأول "صمت القبور" نصّ روائي كُتِب على وَقْع سنوات "انتفاضة الأقصى"، ومع تواتر العمليات الاستشهادية في تلك المرحلة، استعار أبو ميلاد أجواءها ليروي سجالاً بين استشهادي فلسطيني وبين خمسة مستوطنين قُتلوا في تلك العملية، يطلبون منه إيصال رسالتين إلى قريب لهم، ويطلب منهم إيصال رسالة إلى عائلته.
يقرأ الشيخ "صمت القبور" من خلال كتابات دقّة البحثية التي كتبها في تلك الفترة، حيث رصد فيها أبو ميلاد "التحوّلات التي ألزمت الحركة الوطنية الفلسطينية بالعودة إلى العنف الثوري، وتفعيل خيار الكفاح المُسلَّح"، مثل "يوميات المقاومة في جنين"، البحث الذي اشتمل على 60 مقابلة مع فدائيّين من مختلف مناطق فلسطين، ويخلُص إلى أنّ دقّة "انتقد المغالطات المقصودة في مساواة النضال الفلسطيني بالإرهاب العالمي، والتحريض السياسي، وتبرير جرائم الاحتلال، وتركَّز نقدُه على الدور الاستشراقي المتواطئ الذي تمثّله الأكاديميا في خدمة أجهزة الأمن".
ثم ينتقل الشيخ إلى النص الثاني في الملفّ، "حكاية سرّ الطيف: الشهداء يعودون إلى رام الله" (2019 - 2021)، وهو نصّ مسرحي أُنجِز في العام الأول بعد ميلاد بـ"سجن جلبوع"، ويُصوِّر مُسارَرة بين ثلاثة من الأسرى الشهداء المحتجزة جثامينهم في ثلّاجات العدوّ، وهُم: أنيس دولة، وبسام السايح، وكمال أبو وعر الذي تتمحور المسرحية حول استشهاده واحتجاز جثمانه والتقائه بمَن سبقوه. وتُشكّل "حكاية سرّ الطيف" الضلع الثالث من ثلاثية اليافعين بعد "حكاية سرّ الزيت" (2017)، و"حكاية سرّ السيف" (2018)، وكان دقّة قد أملى ما أمكنه من مَشاهدها، هاتفيّاً، على عبد الرحيم الشيخ الذي يرى في هذه التجربة الحكائية المسرحية "رحماً لمفهمة الحرّية والذاكرة والموت".
أمّا النص الثالث الذي يقرأه أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في "جامعة بيرزيت"، فهو "الكابو: ما بعد صهر الوعي، ملهى الإغراء والإغواء" (2022 - 2023). و"الكابو" لفظة تعني السجين الموظَّف الذي يعمل لصالح إدارة السجن ضدّ السجناء. ويُصوّر هذا النص الفكري تحوّلات أنظمة الرقابة والإخضاع والسيطرة في السجون الصهيونية بالتوازي مع تحوّلات السلطة الفلسطينية، و"العصبة الاستزلامية" على أعيُن سياسيّين خضعوا لآليات "راقب نفسك بنفسك"، متجاوزين مقدار التنسيق الأمني الذي نصّ عليه "اتفاق أوسلو"، الأمر الذي حوّل أقلّية "الكابو" إلى أكثرية من "المتعاونين".
سيُقال ويُكتب كثيراً حول سيرة وليد دقّة لا شكّ في ذلك، لكن لو أردنا الإيجاز والتخصيص حول هذه النصوص الثلاثة التي قدّمها وعرض لها الشيخ، فإنّها أشبه ما تكون بـ"الفاتحات"، وأقرب إلى "الأسلوب المتأخِّر" الذي ختم به إدوارد سعيد مسيرته الفكرية مُشدّداً عليه؛ التأخُّر على النقيض تماماً من "النهاية والموت"، "التأخّر هو فكرة البقاء على قيد الحياة فيما يتعدّى المقبول".