استمع إلى الملخص
- تثير هذه الأحداث تساؤلات حول مستقبل سوريا، خاصة مع مشاركة الجهاديين والخوف من تأسلم النظام الجديد، مما يدفع بعض المثقفين للمطالبة بعلمانية صارمة، بينما يرى آخرون إمكانية التعايش بين العلمانية والإسلام.
- يدعو الكاتب المثقفين للمساهمة في بناء مستقبل سوريا بعيداً عن الأفكار المسبقة، مشدداً على أهمية الواقعية وتحرير الثقافة من الانحيازات الفكرية.
يُصادف الكاتب أحياناً عُسراً في الكتابة، ولا أقصد "الحبسة" التي تداهم بعض الكُتّاب وتعطّلهم عن العمل لفترة قد تطول لأشهر أو سنوات. المقصود شيء مختلف، خليط من الحيرة وانشغال البال إزاء سيل من الأخبار المصيرية تدور حول قيامة سورية وانهيار نظام، طال انتظارهما، أمضينا سنوات وسنوات نترقّبهما، دونما جدوى، إذا به يحصل. نرغب في التفاؤل، لكنّنا نبقى أسرى تشاؤم مقيم في داخلنا، ما يقف حائلاً بيننا وبين الكتابة، بينما الأحداث تتدفّق على الأرض، لا نستطيع عنها انفكاكاً.
ما واجهني، وكان لأوّل مرّة، حبسة من هذا النوع، منذ انطلاق فصائل المعارضة من الشمال بسرعة فاقت التوقّعات وتحرير حلب وريفها، وطمأنتها الأهالي، قبل متابعة طريقها إلى حماة وصولاً إلى دمشق، إلى أنّ بوسعهم العودة إلى حياتهم الطبيعية، وممارسة أعمالهم العادية.
تحرّرت حلب وحماة وحمص ودمشق بالإفراج عن السجناء، وإذا توقّفنا عند هذه اللحظات، فسيتجدّد الألم، هناك من قضى معتقلاً أربعين عاماً، أمّا الأغلبية فقضوا نحو عقد من الزمن. كان المساجين دائماً المأساة التي تُثقل على السوريّين، لا يعرفون إن كان أولادهم، آباؤهم، أقرباؤهم، أصدقاؤهم، أحياء، أو أمواتاً، فالنظام لا يعترف بوجودهم لديه.
إذا كان السوريون على طريق الحرّية، فالثقافة ستتحرّر أيضاً
لم يكن تخيُّل حدث التحرير وارداً، ولا تصديقه، لكنّ توارُد الأحداث كان مُبشّراً، فالوقائع تجري بمرمى البصر على الشاشات، تُرى من خلال الدموع، مترافقة مع نصف قرن من القمع والعذاب، وقع تحت وطأتها السوريّون رغماً عنهم، ليس هناك أحدٌ لم يُعانِ من جور هذا النظام، ودفع الثمن باهظاً، ضحايانا متوزّعة بين القبور والسجون. في "الربيع العربي" فقدنا مليون شهيد ونزح وهاجر ما يزيد عن عشرة ملايين توزّعوا ما بين الخيام وبلدان اللجوء.
بعد تحرير دمشق تضاءلت أصوات مثقّفين وتساؤلات مبعثُها القلق من مشاركة الجهاديّين، أي لا ضمانة من الإرهاب، فالتحرير مشبوه بالتأسلُم، ما ينفي العلمانية عن النظام القادم، ويشترطون في تعليقاتهم علمانية بحسب الطبعة الفرنسية، وهو نقاش يقودنا إلى عبثه، ويُعيدنا إلى "جنّة" الأسد العلمانية، بدعوى أنّه أفضل من دولة ذات صبغة إسلامية.
لا أحد يُنازع هؤلاء المثقّفين على علمانيتهم، وإن كان رأينا في العلمانية مختلفاً، فنحن لا نرى ضيراً في علمانية تضمن حرية العقائد وتحميها، ولا يشكّل الإسلام عائقاً في دولة مدنية، ولا يعني هذا المفهوم ترويجاً لدولة دينية، وإنّما دعوة للمثقّفين، بدل استعراض مواهبهم في تنظير أقرب إلى الضرب بالغيب، ما يُصادر الواقع بدل الانخراط فيه، خصوصاً ما يجري الآن، ما يفرض تعميق طروحاتهم ليس بالأفكار المُسبقة، وإنّما على الأرض.
إنّ المساهمة في صناعة المستقبل السوري، تحتّم الواقعية، إلّا إذا كانت أربعة عشر عاماً لم تعلّمهم شيئاً سوى استعراض انحيازاتهم الفكرية على أنّها لا تعدم الصواب المطلق. وليس من قبيل المقارنة، وإن كانت تجوز، عن يساريّين، تجلّى نضالُهم اليساري في تبرير جرائم النظام، فزوّروا الحقائق، وابتدعوا سرديات للثورة على أنّها إرهاب، وحلّلوا سفك دماء السوريّين وسجنهم وتشريدهم.
إذا كان السوريون على طريق الحرّية، فالثقافة ستتحرّر أيضاً، ويتحرّر الكتّاب السوريّون من رقابة حزب "البعث" والمخابرات الذين كبسوا على أنفاسهم، ويتنفّسون بحرية ويكتبون بعيداً عن أية ضغوط تسلُّطية، ولا ينصاعون إلا لصوت الضمير.
إن لم ينزل المثقّفون إلى الواقع، فلن تتحرّر الثقافة من المقولات الجاهزة.
* روائي من سورية