هزائم العالم وانتصار الشعر

30 اغسطس 2024
راؤول زوريتا
+ الخط -

"هنا الطريق إلى مدينة العذاب،
هنا الطريق إلى الألم الأبدي،
هنا الطريق إلى القوم الهالكين. 
حرّكت العدالة صانعي الأعلى،
وخلقتني القدرة الإلهية، والحكمة العليا،
والحبُّ الأوّل.
قبلي لم يُخلق شيء سوى ما هو أبدي، أنا الأبدي الحقيقي.
دعوا أيّ أمل تحملونه، أنتم يا من تدخلون".

إنّها هناك، منقوشةٌ على مدخل الجحيم، في النشيد الثالث من "الكوميديا الإلهية". لكنّها صارت الآن، بسب المسار الذي اتّبعته الإنسانية في انحطاطها وانحرافها، تنتمي إلى العالَم. صارت جزءاً جوهرياً من العالَم أكثر من كونها قصيدة. من وجهة نظرٍ تاريخية، قد لا يكون الأمر أكثر من شعور عاطفي، لكن عندما أتذكّر بعض حلقات غزو أميركا، أتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّه كان ذلك النقش بالتحديد، قبل السفن الإسبانية نفسها، هو الذي تقدّم وصول أوروبا إلى هذه الأراضي. يقول لنا دانتي في هذه الجملة إنّ الجحيم يقول عن نفسه إنّه ليس ثمّة شيء مخلوق قبله إلّا الأبدية. بالتالي فإنّ الأبدية موجودةٌ قبل خلق الإنسان وقبل فكرة الخطيئة نفسها. تُجسّد هذه المفارقة الحزينة ذروة معنى وجودنا التاريخي، لا سيّما وأنّه على الطرف الآخر، قرب نهاية "النعيم"، يصل دانتي تقريباً إلى رؤية الإله.

من المحتمل يوماً ما أن تتوقّف القصائد عن كونها ضرورية

ربما لهذا السبب نصنع الأدب والموسيقى والرسم. لأنّنا لسنا سعداء. في النهاية، هذا هو السبب الوحيد لجميع الكتب التي كُتبت إلى يومنا هذا، ولكل اللوحات والسيمفونيات. من وقت لآخر، نتعرّض لهجوم العتمة، نتعرّض لهجوم أبعادٍ مُعتمة كما يحدث عادةً في الأحلام. ربّما لهذا، على وجه الخصوص، نحن محرومون من الصباح. هكذا يخاطبنا حلم الجحيم، والمطهر، والنعيم، يخاطبنا من قلب محجّب لا يمكننا أن نصل إلى نبضاته إلّا من خلال الكلمات. ربما لأنّ الكلمات، في هذه السيناريوهات المنقسمة، حدٌّ فائض بذاته. أو لأنّها فيض حُبٍّ. أو لأنّ الكلمات هي التي تُحرّك النجوم.

هذا ما يقوله دانتي في الصفحة الأخيرة من "الحياة الجديدة"، حيث يَعد بكتابة قصيدةٍ يقول فيها لبياتريس ما لم يُقل عن أيّة امرأة. بعد سنوات عديدة انتهى دانتي من كتابة "الكوميديا الإلهية"، ولكن من أجل ذلك، كان على حبّه أن يموت. تحديداً من هذه المساحات في أميركا الجنوبية، لا يمكننا الانتقال من الحب إلى الموت، من الحياة إلى الكوميديا، من الوعد إلى العمل، ولكن من الكوميديا إلى الحياة، من العمل إلى الوعد، ومن العالم القديم إلى العالم الجديد. فقط يمكننا أن نفعل ذلك على شواطئ هذه الأرض، التي رغم كلّ شيء، تُحبّنا. لطالما كانت هزائم العالم انتصاراً للشعر، ومن المحتمل يوماً ما أن تتوقّف القصائد عن كونها ضرورية لأنّنا سنُصبح جديرين بالكون الذي نعيش فيه. إنّه حلم ولا حلم.


* من مقال "الشعر والعالم الجديد" في كتاب "مقالات مختارة". ترجمة عن الإسبانية: جعفر العلوني

 

المساهمون