هدنة الأجيال

31 ديسمبر 2021
صلاح المُرّ/ السودان (جزء من لوحة)
+ الخط -

يقول المثل الشعبي ما معناه إنّ كلّ جيلٍ يطرب لجيله، وهذا صحيح عموماً، وقد يظهر هذا الطرب في صورة رفْض أو صراع مع الجيل الآخر، وفي الغالب، فإن الأبناء يخوضون صراعاً ما مع الآباء. وفي كلّ استعادة لمفهوم صراع الأجيال تأتي رواية تورغينيف "الآباء والبنون" مثالاً أدبيّاً على تجسيد الوضع بين جيلٍ وجيل، وفيها يلخّص الروائي أحد أشكال المواجهة بين جيلين من أجيال الروس الذين عاصروه.

غير أننا، هنا في هذه الرواية، نقرأ حالة مجتمع آخَر ووضع آخَر ومفاهيم أُخرى لا صِلة بين المفاهيم التي تطرحها على نفسها وعلى الأجيال الروسية، وبين وضع الأجيال العربية. وإذا ما نشأ الصراع الجيليّ هنا، فإن طبيعة المجتمع تضع أمام الجميع معطياتٍ أُخرى لا تُقارب أشكال الصراع التي جسّدها تورغينيف.

ويمكن اعتبار الاعتراضات السُّلوكية التي يُبديها الأبناء تجاه آبائهم شكلاً شفوياً من أشكال صراع الأجيال، وقلّما تخلو أُسرة من مواجهات مماثلة، غير أن مسألة الجيل ــ بوصفه وحدةً اجتماعية مضادّة لوحدة اجتماعية أخرى ــ غير متوفّرة، وليس لدى أيّ جيل عربي ما يعتدّ به من الفكر والمبادئ المستقلّة التي يستطيع أن يضعها كبرنامج عمل لنفسه في أيّة مرحلة من مراحل تاريخنا المعاصر. وفي الغالب، فقد سرق السياسيّون تلك البرامج، أو جمّدوها لصالح مشاريع "كُبرى" وهميّة ومزيّفة وُضعت بوصفها الحلم الكبير الذي يجب أن تُمحى كلّ المشاريع والأفكار والأحلام، لدى طبقات المجتمع أو شرائحه العمرية، من أجل تحقيقه.

في أدب القرن الماضي عربياً، وحده الشعر عرف صراع أجيال

ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين (أي منذ ظهور العسكر واستلامهم الحُكم)، شهد العالم العربي ما يشبه الهدنة في وضع الأجيال؛ إذ يبدو أن أنظمة الحكم وحّدت شرائح المجتمع في مواجهتها، أو أجلت المواجهات بين الأجيال. وفي المجال الأدبي والفنّي، كان الشعر العربي هو الذي حمل الرّاية وحيداً، وهو النوع الأدبي الذي خاض منذ بداية القرن أشكالاً مختلفة من صراع الأجيال، وشهد أعنف صراع جيليّ في الأدب العربي. واستطاع الشعر الحديث أن يحقّق انتصارات فنّية كُبرى، وأن يُرغم الشعر العموديّ وممثّليه على التراجع أو الصمت أو التخلّي عن أدوات الصراع.
 
بينما لم تظهر في الرواية العربية أو القصّة القصيرة أو المسرح العربي، أيّة مؤشرات تدلّ على احتمال نشوب معارك في الخيارات الفنية. فلم تشهد الرواية أيّ تمرّد، إذ لا يوجد ما تتمرّد عليه في النوع؛ ولم تتعرّض القصّة القصيرة لأيّ شكل من أشكال التحدّي، بينما كانت معركة المسرح، ولا تزال، مع قوى الرقابة والحظر.

وفي الثورات العربية التي شهدتها السنوات العشر الماضية، لم يظهر أيّ شكل من أشكال الصراع بين الأجيال على الأرض، إذ شملت الثورات جميع شرائح المجتمعات العربية العمريّة. اللافت أن تُشارك في الثورات المضادّة عناصرُ عمريّة مماثلة لتلك التي شاركت في صناعتها. أي أنّ من بين الموالين للأنظمة، أو مَن شاركوا في دحض الثورات، أو ساهموا في صناعة الانقلابات المدنية والعسكرية المضادّة للثورة، كان شبابٌ وكهولٌ ومتقدّمون في السنّ.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون