نيابةً عنّي وعنك: مو حِزن لكن حزين

21 مايو 2022
مظفّر النواب (1934 - 2022)
+ الخط -

عرفتُ مظفّر النواب مثل كثيرين غيري عبرَ أشرطة الكاسيت المَمنوعة. شريط لونه أخضر في مسجّلٍ تُضغط أزرارُه من فوق، وإذا انقطع نلصقه بمانيكير.

لا أتذكّر أنّني رأيتُ أمّي أو بنتاً من بنات الدار تمنكَرت، لكن هذا الطِّلاء الأحمر موجودٌ، للصق ما ينقطع من صوت مظفّر، الذي كُنّا مؤمنين بأنّه يصعد إلى المسرح سكرانَ حتّى يفقدَ سيطرتَه على لسانه، وهو يجوح بصوت مشروخ: "هذا وطن أم مبغى؟"

بصوتٍ واطئٍ للمُسجِّل والنافذة مُغلقة، احتجنا دائماً لشخصٍ يُفقدنا صوابَنا، ويُعلّمنا درساً في التخريب، قبل أن نتمكّن ـ أنا وغيري ـ من قراءته بالفصيح والعامّية ونتعرّف إلى عوالم أُخرى تفيض بشجنِ عاشق مُصاب إصابةً قديمةً.

وبسببٍ من جماهيرية القصائد المَمنوعة، تقاسم إرثَ الشاعر مُريدون في فسطاطَين مُتدابِرَين، فهو من جانبٍ شاعرُ الهِجاء السّياسي الذي لا يُدانى، كما تبدو قصائده أشدّ لزوماً كلّما نظر الناظر، فوجد الحال قبل عقود، مقارنةً مع الدَّركات التي سنهبط إليها فيما بعد، أقلَّ رداءة وربّما وصفوه بـ"الزمن الجميل".

ومن جانب هناك من أدار الظهر، نفياً لأيّ تبعات سياسية تضرّ بالقصيدة، وبما يذكّر بمقولة شاعرٍ آخر عن "الشِّعر الضّروري"، أي الذي ينبغي قولُه في ظرفٍ تاريخي معيّن، فوجد الضّالة الثمينة في شعره بالدّارجة العراقية.

ظلّ هجاءُ مظفّر النواب السياسي المرير صوتاً في شريط كاسيت، وعبر عقوداً طويلة، وظلّ إلى يوم الناس رسالةً واضحةً إلى الوطن "الممتدّ من البحر إلى البحر. سجونٌ متلاصقة. سجانٌ يمسك سجان".

وبقيت قصيدته حتّى مماته، اليومَ، في مدوّنة الشعر العربي بما فيها من خُصوصيّة تأخذُها كلّها، مرحّباً أقلّه باختلافها لجهة الشّعر المطواع في لغته، والحضور المونودرامي الذي لا يُنتزَع من المشهد.

بدا مظفّر على الدوام صوتَ الشاعر الجوّال، السَّاخط في حاراتنا، والماجن في الحانات والحزين نيابةً عن كلّ عربي يُنادي "مو حِزن لكن حزين".

موقف
التحديثات الحية
المساهمون