نُفاجأ حين نعثر، بالصدفة، على الأعمال الكاملة لـ مظفّر النوّاب (1934 - 2022) في مكتبة دمشقية أو في معرض كتابٍ بيروتيّ. أعمالٌ كاملة نراها، فوق ذلك، في أكثر من طبعة وعن أكثر من دار نشر: طبعاتٌ بأغلفة مصمّمة على عجَل، كما يبدو، أو بشكلٍ هاوٍ، مطبوعة على ورقٍ رخيص، ومغلّفة بكرتون تلمع طبقة البلاستيك الشفّافة عليه. كيف يمكن لشاعر لم ينشر، حسب علمنا، إلّا ديواناً عامّياً ("للريل وحمد") وآخرَ فصيحاً (هو عبارة عن قصيدة واحدة طويلة - "وتريّات ليليّة")، أن يُصبح من هؤلاء الذين تَجمع دور النشر أعمال حياتهم وتقترحها على القرّاء؟
ليس التساؤل إنكارياً. فالقصائد التي وضعها النوّاب كثيرة، وهي حَريّة بديوان كامل. نُفاجأ، فقط، لأننا لا نتخيّل الشاعر العراقي - الذي رحل عن عالمنا أوّل أمس الجمعة عن 88 عاماً - واقفاً في صورة جماعية بين الشعراء الذين عادةً ما تُطبع أعمالهم الكاملة؛ الشعراء الجدّيين، المؤنّقين، الذين يستيقظون كلّ يوم عند ساعة معيّنة، يتناولون فطورهم ويبدأون بالكتابة - عند ساعة معيّنة أيضاً - قبل أن ينتقلوا إلى مهامّ أُخرى في برنامجهم اليومي. صورته في بالنا، وفي بال كثيرين ممّن عرفوه وعرفوا تجربته، هي صورة شاعر هامشيّ، يصعب جمع آثاره. وللشاعر الهامشيّ اسمٌ في التراث الشعريّ العربيّ: صعلوك. ليس في الكلمة تحقير. فالصعلوك، كما عرفته العرب، وكما نعرفه اليوم، هو ذاك الخارج عن أعراف أقرانه، وهو، بلغة كولن ويلسن، ولغة المثقّفين العرب في الستّينيات والسبعينيات، غير منتمٍ.
رغم المكانة التي وصل إليها النوّاب بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي عند قوسٍ من المستمعين والقرّاء العرب، إلّا أنه لم يكن، بالمعنى الحرفيّ، منتمياً إلى أقرانه من الشعراء. لا نتخيّله، بالتأكيد، جالساً إلى طاولة، عند ساعة معيّنة، ليكتب. ولا نتخيّله جالساً أمام ناشر أو ممضياً ساعة معه على الهاتف للحديث عمّا سيُصدره. بل قد لا نتخيّله كاتباً أبداً. ما نراه، هو شاعر يتكلّم، يقول ما يريد قوله، يلقيه ربّما أمام آلة تسجيل أو يُفضي به إلى أحدٍ ما من أصدقائه ومريديه الشباب، كي يدوّنه عنه. وإذا صارَ وكتب، فقد يكون واقفاً، في غرفةٍ أو في الشارع؛ قد يكتب على يده ربّما، على منديل ورقيّ، أو على وصفة طبّية يُسندها إلى ركبته أو إلى كتابٍ ما، كي لا تتمزّق تحت رأس القلم.
لا نتخيّله جالساً إلى طاولة ليكتب، بل شاعراً يتكلّم ويقول
ذلك أنّ الشاعر الراحل كان، قبل كلّ شيء، شاعراً شفاهياً. لا نقول هذا لأنه قال شعراً عامّياً - ربّما عُرف به ونال استحساناً أكثر من شعره الفصيح - بل لأنّ علاقته بالقصيدة، حتّى تلك التي وضعها بالفصحى، هي علاقة كلامٍ وحديث، كما لدى قدماء العرب. والحديث، كما يعلّمنا الفلاسفة، أقلُّ ضبطاً للعواطف من الكتابة. إنّه ابن الحدث، ابن اللحظة، بما يعنيه ذلك من فوريّةٍ وفوَران، من عفويّة ومن غيابٍ لسُلطة الوقت وإعادة القراءة (إن لم نقلْ لسلطة العقل). إنّه أقلّ دبلوماسيةً من الكتابة. وهو، قبل كلّ شيء، أكثر رنيناً، غنائيةً ولحناً. لهذا ربّما، ولأسباب أُخرى بلا شكّ، لم يجد عدد من المغنّين العراقيّين صعوبةً في تلقُّف قصائده. "مرّينا بيكم حمد"، التي غنّاها ياس خضر، بدت أغنيةً حتى قبل أن تُلَحَّن وتتحوّل إلى أغنية.
لا نبالغ هنا في الحديث عن شفاهية صاحب "للريل وحمد"، ولا نريد بذلك اختزال تجربته أو التقليل منها. نلاحظ، فقط، اختلافاً في مسيرته الشعرية عن كثيرٍ من مجايليه. ليس فقط لأنه جمع، طيلة مسيرته، بين الفصحى والعامّية، ضمن مستوى شعريّ واحد - وهو شيءٌ نادر لدى الشعراء العرب البارزين في وقتنا. بل لأنّ تجربته تدين قبل ذلك، في رأينا، إلى الفم والأذن، فمه وآذان مَن يصغون إليه، أو إلى تسجيلاته، قبل دَينها إلى النظَر الذي ترتبط به الكتابة والقراءة عادةً.
فالشاعر، الذي لوحق في بلده، وسُجن فيه، ومُنع شعرُه فيه، وحُكم فيه بالإعدام، ونُفي منه، بسبب معارضته وشيوعيّته، ظلّ حاضراً في العراق عبر صوته. كما أنه ذهب بصوته إلى سورية، ولبنان، وليبيا، وغيرها من البلدان العربية، حتى قبل أن يقيم فيها. كان يزور كلّ هذه البلدان بأشرطة كاسيت سُجّلت عليها قصائده الشعبية، وقصائده السياسية أو الغزلية. وكانت تلك الأشرطة مادّةً شائعة في العراق، وكذلك في سورية، وفي غيرهما.
في سهراتهم، يشرب المثقّفون، يتحدّثون عن الشعر والكتابة والسياسة، وليس غريباً، في مشهدٍ كهذا، أن يكون داخل المسجّلة، على طاولة في زاوية الصالون، شريطٌ لـ"القدس عروس عروبتكم"، لـ"للريل وحمد"، لـ"تلّ الزعتر"، لـ"الحانة القديمة" أو حتى شريط أغانٍ لمطربين عراقيّين يؤدّون قصائده.
مظفّر النوّاب كان هكذا، شاعراً تسمعه وتقرأه الأغلبية: "سواد" الشعب، كما يُقال، والنخبة - أو قسمٌ منها على الأقلّ. بالتأكيد، لم تكن قصائده تروق للجميع. فثمّة مَن قد يرى مباشرةً سياسيةً في كثير منها، وثمّة مَن قد يرى، في قصائد أُخرى، غنائيةً وإنشاءً سهلَيْن. قد يكون هذا هو الثمن الذي يدفعه شاعرٌ لم يشأ الفصل بين قصيدته والواقع الساخن - سياسياً كان أو شخصياً.
بدت بعض قصائده أغنياتٍ حتى قبل أن تُلَحَّن وتُغنّى
لكنْ، عندما كان النوّاب يلقي، في أحد مقاهي دمشق، قصيدته التي شاعت بين المثقّفين السوريّين ("دمشقُ عدتُ بلا حزني ولا فرحي/ يقودني شبحٌ مضنىً إلى شبحِ")، كان الجوّ بعيداً عن نقد النخبة، بل لحظة يصل فيها الشعر إلى ذات المستمع من دون حواجز العقل والأسئلة. فالتجربة، بعُريها، تمثُل هنا، في هذه الاعترافات:
"دمشق عدتُ وقلبي كلُّه قُرَحٌ
وأين كان غريبٌ غير ذي قرحِ
هذي الحقيبة عادت وحدها وطني
ورحلة العمر عادت وحدها قدحي
أُصابحُ الليل مصلوباً على أملٍ
ألّا أموتَ غريباً ميتةَ الشبحِ"
شفافيةٌ تذكّر، على سوداويّتها، بقصائده الأُولى التي تغنّى فيها بلحظاتٍ من شبابه العراقي: مثلاً، قطار الليل الرخيص ذاك، الذي بات أشهر من أن نعيد روْي قصّته.