نعيُ النعي: أهل يغرقون

27 أكتوبر 2022
آثار لاجئين غرقوا في المتوسط قبالة صبراتة الليبية عام 2017 (Getty)
+ الخط -

جاء خبرُ وفاة عدد من الشباب في البحر الأبيض المتوسّط، قبل أيام، ثقيلاً وأليماً. فحينَ تقتربُ الفاجعةُ منكَ لأنّها تخصّ أقاربكَ وأناساً تعرفهم، تقاسمتَ الخبز يوماً مع أحدهم، يسوء الأمرُ إلى ما لا نهاية؛ يتحوّل التنظير عن الموتِ في البحار إلى واقعٍ ملموس يُغرقكَ في تفاصيل الألم وعبث الأقدار.

الواقعُ أصعب من أن يُصدَّقَ حين يَمَسُّكَ لهذه الدرجة، ويأتي عليك إلى هذا الحدّ. إن الّلغة ليست قادرة على رثاء المآسي التي اتخذت صفة الرتابة. الذين غرقوا وَفُقدوا في البحر الأبيض المتوسّط وَلُفِظَتْ أجسادهم على شواطئ المتوسّط في تونس ليسوا هواءً بلا تاريخ؛ هؤلاء بشرٌ بذكريات وأحلام وعلاقات لها معنى عميق في نفوسِ أهلها.

لم أستطع التفكّير وأنا أرى أسماءً تنتمي إلى عائلتي نفسها، وتقتربُ صلة القرابة لتكونَ أولاد عمّ، ونسيباً، وأولاد عمومة آخرين. فهؤلاء شبابٌ لا تتجاوز أعمار أكبرهم السابعة والعشرين، تركوا غزة، لأنَّ الفقر والاختناق، الذي أنتجه حصار عقدين كاملين، بدأ ينخرُ في عظامهم، وبدأ اليأس يمحو معالم عيونهم، فاتّجهوا إلى ليبيا المتناحرة، ليهربوا إلى إيطاليا، قاصدين بلجيكا، فلعلَّ وعسى يعثرون على حياةٍ أفضل لهم ولأهلهم هناك...

الصورة قاتمة مهما تكرّرت والمُصاب أكبرُ من أن يُعزّى بالكلام

وفي تلكَ الرحلة القاتمة انتهى الأمرُ بهم تارةً في سجنٍ لمافيا تطالبهم بمالٍ لتطلقَ سراحهم مؤقّتاً، ثمَّ تُعاود الكَرّة مرّة ثانية، وتارةً أُخرى في بحرٍ لفظهم جثثاً متحلّلة على الشواطئ، لينتهي المآل في ثلّاجات موتى بلا قريبٍ أو حبيب يراهم ويطمئنهُم بأنَّ هناك قلوباً كثيرة تنبضُ بحبّهم وتُعزّهم.

الصورة قاتمة، مهما تكرّرت، والمصابُ أكبرُ من أن يُعزّى بالكلام. واللغة، مهما عَلَت، تقلُّ أمام حقيقة العبث والمأساة وقلّة الحيلة. إن بكاء أمّ أحدهم، سميرة الشاعر، مدوٍّ وصعب، ففلذة كبدها لم يعد في هذه الحياة، ولا يبدو أنَّ هناك فرصة لرؤيته ووداعه ودفنه وإكرامه بالحبِّ والوداع العائليّ.

لا معنى للعويل وضرب الإنسان وجهه ورأسه بكفّيه، لكنّنا نفهم مَن ينتهي الأمر بهم إلى ذلك في سياق الظلم والضيق الذي حُشِرَ فيه أهل غزّة وفلسطين عامّة، وكثيرون في العالم العربي، فهربوا بأجسادهم وأرواحهم، علَّها تأخذهم بعيداً عن حصارٍ وضجر وأنظمة حكم تالفة ومُتعِبة حدَّ الكآبة، وحياة تتكرَّر بمآسٍ وأثقال لا طاقة لشبابٍ في أعمار الزهور بها.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون