نجيب وبديعة... أحوال الفن في الهجرة إلى أميركا اللاتينية

18 يونيو 2022
كم كانت دهشتنا بالغة حين أطللنا من النوافذ وشاهدنا مناظر تجل عن وصفها الألسن (Getty)
+ الخط -

تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة والسبعون لوفاة مؤسس المسرح الكوميدي العربي نجيب الريحاني نتيجة مضاعفات الحمى التيفية، وهو من الفنانين القلة الذين كتبوا مذكراتهم، فأتت مشتملة على تفاصيل نادرة عن أحوال الفن والفنانين والمسارح في النصف الأول من القرن العشرين. كما حوت أخبار رحلة الريحاني إلى أميركا اللاتينية في عام 1924، بصحبة زوجته الفنانة بديعة مصابني.

ويعد نجيب الياس ريحانة، وهذا اسمه الكامل، أشهر فنان كوميدي عربي في تاريخ المسرح، هو من أصل عراقي كلداني، ولد في القاهرة لوالد كان يعمل بِتجارة الخيل، وأم مصرية قبطية، وتلقى تعليماً جيداً قبل أن يلتحق بعدد من الفرق المسرحية الشهيرة في ذلك الوقت، إلى أن ابتكر شخصية "كشكش بيك" التي نقلته إلى قمة هرم الكوميديا في العالم العربي قاطبة، حتى أن العديد من ممثلي بدايات القرن العشرين سرقوا هذه الشخصية وادعوها لأنفسهم، كما سنرى.

بالإضافة إلى مسرحياته الشهيرة، مثّل الريحاني عدداً من الأفلام السينمائية آخرها "غزل البنات" في عام 1949، حيث توفي في المراحل الأخيرة من تصوير الفيلم، الأمر الذي دعا المخرج أنور وجدي إلى تغيير النهاية لكي تتلاءم مع حدث الوفاة. وعند ذلك رثاه العديد من المسرحيين الأكاديميين الذين سبق أن سخَّفوا مسرحه، وكتبوا المقالات القاسية ضده، أمثال يوسف وهبة وزكي طليمات وغيرهما.


على ظهر سفينة متهالكة

في عام 1924 كان اليأس قد بلغ من الريحاني مبلغاً دفعه لمغادرة العالم العربي بحثاً عن مكان آخر، بعد أن تلقى طعنات من أصدقائه، وسرقة شخصية كشكش بيك، وامتهانها بطريقة مبتذلة، فاستجاب لاقتراح بديعة مصابني بالسفر إلى أميركا اللاتينية، واستكشاف إمكانية إحياء حفلات مسرحية هناك. وبعد أن استخرج جوازات سفر له ولزوجته بديعة، ولبعض خواصه، قصد شركة ملاحية، فحجزت له على سفينة تدعى "غريبالدي"، تقوم من جنوة الإيطالية قاصدة إلى البرازيل.

وقد وصف السفينة المتهالكة بقول: "قلت لا بد أن إيطاليا إذا أطلقت اسم زعيمها العظيم غريبالدي على إحدى بواخرها، فإن هذه الباخرة لا بد أن تكون عروس زميلاتها الأخريات. وغادرت مصر إلى جنوة، وفي معيتي بديعة مصابني وفريد صبري ومحمود التوني وجوجو ابنة بديعة، وظللت أمنّي نفسي بعظمة "غريبالدي" وأبهتها وفخامتها، حتى إذا وصلنا إلى جنوة تبخرت هذه الأحلام، لأن تلك الـ"غريبالدي" شبهت لي بقارب من قوارب الصيد، أو بسفينة من ذلك النوع القديم الذي علق أثره بأذهاننا من عهد الدراسة، والتي كان الفينيقيون يتنقلون عليها بين ثغور البحر الأبيض، وهنا قلت كيف يتسنى لهذه "القربة" أن تخطو خطوة واحدة في المحيط الأطلنطي؟".

ويضيف: "سارت غريبالدي تهكع بنا، موجة تشيلها، وموجة تحطها، إلى أن اجتزنا مضيق جبل طارق، ودخلنا مياه المحيط وهنا كان الغلب الأزلي!! بل هنا كان التحقيق العملي للمثل المعروف وهو: كالريشة في مهب الريح، أي والله ريشة، ولكي تفهم قيمتها في المحيط أقول إنها قضت بنا فيه أو قضينا بها في المحيط خمسة وعشرين يوما في حين أن غيرها من بواخر خلق الله يقطع هذه المسافة في أسبوع.. وعملت الباخرة بأصلها، وأوصلتنا إلى بلاد القارة الجديدة، بعد أن قطعنا الأمل من هذا الوصول، معتقدين أن الله سبحانه وتعالى قد اختارنا طعاما طيبا لأسماك المحيط الجائعة!".


في ميناء سانتوس البرازيلي

توقفت السفينة في ميناء سانتوس، وصادفهم سوري مندوباً من أحد الفنادق هناك، ولكنه لم يتعرف على نجيب الريحاني، الأمر الذي أدى إلى إصابته بخيبة الأمل، ولكن صاحب أحد أكبر الفنادق في المدينة تعرف عليه بعدما تشكك بأمره في البداية، إذ قال له إن "كشكش بيك" له لحية، وقد رأيته في حمص العام الماضي، فأقنعه الريحاني بأنها لحية مستعارة ليس إلّا، فما كان من صاحب الفندق إلا أن دعاهم لإحياء حفلة غنائية لديه، فقامت بديعة مصابني بالغناء ونجحت الحفلة، ولكن من دون تمثيل. وقد استقر الرأي أن يتوجهوا إلى ساو باولو على بعد ساعتين في القطار، نظراً لأنها مدينة عامرة بالفن، ولوجود جالية سورية ضخمة هناك، وكان ذلك في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1924.

ويصف الريحاني الطريق إلى تلك المدينة بقوله: "امتطينا القطار، وكم كانت دهشتنا بالغة حين أطللنا من النوافذ، وشاهدنا المناظر التي تجلّ عن وصفها الألسن، وتتضاءل إلى جانبها أشهر المناظر السويسرية وأبدعها. وفي هذه المدينة عرفنا حقا أننا اجتزنا البحر إلى أميركا، فهي مدينة كبيرة عامرة وبها جالية سورية تتحكم في أغلب المرافق، بين تجارة وصناعة وأعمال مجدية مثمرة. نزلنا في فندق كبير يديره نزيل سوري، وكان خبر قدومنا قد سرى مسرى الكهرباء، فكان في استقبالنا جمهور يربو على الخمسمائة شخص، أكرموا وفادتنا وأنزلونا منهم على الرحب والسعة".


تشكيل فرقة مسرحية

ويتابع: "منذ اليوم الأول أظهروا لنا رغبتهم في مشاهدة بعض رواياتنا: فأفهمتهم بأن رحلتنا لم تكن فنية، وأننا ما قصدنا بها إلا الاستجمام والراحة، ولذلك لم نصحب فرقة من الممثلين الذين يمكن أن نعمل معهم. فطمأنونا من هذه الناحية، وأبلغونا أن في المدينة جمعية من الهواة، ما لبث أعضاؤها أن وافونا حيث نزلنا، فإذا على رأسها الشاب جورج أستاتي، نجل المرحومة السيدة ألمظ أستاتي، وقد كانت من مشهورات ممثلات فرقة الأستاذ جورج أبيض قبل ذلك، وهي شقيقة السيدة إبريز أستأتى قرينة الأستاذ أمين عطا الله. والظريف أن جورج أستاتي كان يمثل رواياتي هناك، ويطلق على نفسه اسم "كشكش البرازيلي"، كما كان زوج خالته الأستاذ أمين عطا الله يفعل في سوريا ولبنان! ووجدت من أفراد هذه الجمعية البرازيلية شابا اسمه جبران طرابلسي، وقد قرأت في جريدة الأهرام أنه يعمل الآن (1947) على رأس فرقة في الأرجنتين متخذا لنفسه "شكشك بك"، يعني تصرف في اسم كشكش، فقلب كيانه".

ألف الريحاني فرقة عمادها أولئك الهواة، ووزع عليهم نصوص رواياته وبدأ بزيارة الصحف البرازيلية هناك للبدء بحملة إعلامية، ولاحظ ترحيب الصحف السورية، مقابل تهكم الصحف البرازيلية وعدم مبالاتها بفرقة شرقية كما يقول. وقد فهم أن سبب ذلك إنما يرجع إلى الجفاء بين أهل البلاد الأصليين، وبين ضيوفها النازحين، لتمكن الأخيرين من امتلاك أعنَّة البلاد الاقتصادية. وقد استأجر مسرحاً لأربع ليال لتقديم مسرحيات "ريا وسكينة"، و"البرنسيس"، و"أيام العز" التي أطلق عليها اسم "حلاق بغداد"، وأجهد نفسه بالبروفات بعدما لاحظ وجود متربصين برازيليين يريدون النيل من الشرق والشرقيين.


استقبال أسطوري

ويصف لنا الريحاني يوم العرض الأول كما يلي: "نظرت من خلال ثقب في الستار قبيل التمثيل فما أروع ما شهدت! طوائف من أرقى الطبقات رجالاً وسيدات، تشع من نحورهن وأصابعهن أنوار الحلي البراقة، والماسات ذات اللون الأصفر الفاقع الذي لم أر له مثيلا في غير البرازيل. وقد خيل إلي وأنا أنظر إلى السيدات إذ ذاك بأن هنالك قطعة متماسكة من الجواهر أو صفوفا متراصة من اللآلئ. ورفع الستار فمثلنا رواية "ريا وسكينة" وهي من فصل واحد انتهى من دون أن أتبين له في نفوس الجمهور نتيجة، ثم جاء أوان البدء في رواية "البرنسيس"، وهي تبدأ بظهور بديعة على المسرح أولا، وبعد فترة طويلة أظهر أنا، فعكفت في غرفتي أعالج تهيئة وجهي بالمكياج وأنا أرتجف لوعة، وتملكني خوف أحسست معه كأني مبتدئ لم يعهد أضواء المسرح، ولم يبد أمام الجمهور من قبل. ثم أرهفت أذني منصتا لأقوال بديعة، أستشف أثرها في أفئدة الناس. وقد سرني أن وجدتها تمثل في إقدام وشجاعة، وكأننا على مسرحنا المعتاد في مصر. وكان أن ظهرت أنا أيضا متشجعا حتى أتممنا الفصل الأول بين عاصفة من التصفيق والهتاف، وامتلأ المسرح بالصحفيين والمهنئين، وغرقنا في لجة من القوم الذين أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم. وقد كان فخر أفراد الجالية السورية بإخوانهم المصريين لا يقدر. وانتهت الليلة ونحن نحمد الله كل الحمد، على ما أنعم علينا من توفيق حمل البرازيليين أنفسهم على تقديرنا ورفع شأننا".

ويضيف: "ارتفع شأننا بعد النجاح الذي لقيناه في سان باولو، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة في نادي "سبورتنج كلوب"، الذي أنشأته الجالية السورية في تلك المدينة. ذلك أن النادي دعانا إلى مشاهدة مباراة في كرة القدم، بين فريقه وفريق البرازيل، وكان المتفرجون يزيدون على العشرين ألف متفرج امتلأت بهم جوانب الملعب. فما كدت وبديعة نظهر أمام هذا الجمع الحافل، لنأخذ أماكننا، حتى سمعنا هتافهم صاعدا إلى أجواء الفضاء "فيفا ريحاني" وفيفا معناها يحيا".


إلى ريو دي جانيرو

أصبح الريحاني خلال فترة وجيزة مشهوراً جداً في مدينة سان باولو، حتى أن الصحافة البرازيلية بعد أن شاهدت مسرحياتهم، عادت فأثنت على التمثيل بمستطاب الثناء، كما يقول.

انتقل الريحاني وفرقته إلى العاصمة ريو دي جانيرو بعد نجاح منقطع النظير في سان باولو، وكانت الشهرة والصيت قد سبقاهم إليها، ولذلك استُقبلوا فيها استقبالا حافلاً، ونجحوا في حفلاتهم الثماني التي أحيوها بتلك المدينة، وكان متوسط إيراد الحفلة الواحدة 500 جنيه، وما كادوا ينتهون من حفلات ريو دي جانيرو حتى تم استدعاؤهم إلى سان باولو ثانية.

وبعد أن انتهت حفلاتهم الناجحة في سان باولو، خطرت لهم فكرة الرحيل إلى الأرجنتين، ولكن وجدت مشكلة عويصة، كما يقول تتمثل في التشديد المتناهي في الكشف الطبي على العيون قبل اجتياز الحدود، ولن يدخل البلاد شخص يثبت الطبيب وجود التراخوما في عينيه، ولذلك نصحهم بعض الصحب أن يقصدوا الأرغواي أولا، وهناك سيتصلون بتاجر سوري له نفوذ في جمهوريات أميركا الوسطى، فركبوا البحر إلى مونتيفيديو في أرغواي، وهناك كانت الصحافة بانتظارهم، ومن هناك قطعوا تذاكر في القطار للسفر إلى بيونس آيرس.


مغامرة غريبة في الأرغواي

وقد تبين أن أحد الممثلين الرئيسيين مصاب بالتراخوما، وهو أمر خطير، من شأنه أن يوقف عمل الفرقة، فيقترح عليهم التاجر السوري أن يدخل الريحاني والممثل المريض إلى الأرجنتين تسللاً، وليس بشكل نظامي، هرباً من الفحص الطبي، بمعونة ذلك الشهم السوري، كما يقول.

وبعد مغامرة طريفة في عبور الحدود بين الأرغواي والأرجنتين مع مهرب سوري، يصل الريحاني إلى الأراضي الأرجنتينية، ويصف ذلك بقول: "أقلعت السفينة ببديعة وبقية الفرقة. أما أنا والتوني فقد صحبنا رجل من قبل تاجرنا الكبير يحمل معه خطابا إلى رجل آخر في مدينة أخرى. وامتطينا قطار السكة الحديد، ومكثنا فيه ثلاثة أيام بلياليها نجوب مجاهل أميركا، مجاهلها والله العظيم. وبلد تشيلنا وبلد تحطنا، وفي كل منها يسلمنا شخص إلى آخر وهذا يسلمنا إلى غيره. وفي كل مرة يصحبنا خطاب من محطة التصدير، إلى محطة التوريد! وكأننا بضاعة مهربة، وفي المرحلة الأخيرة، وبعد الليالي الثلاث، وصلوا محطة صغيرة على شاطئ نهر، وفيها نزلنا وأشار دليلنا بإصبعه إلى الشاطئ الآخر من النهر". 


أسبوع في سان خوسيه

وبعد أن نجحوا في العبور إلى سان خوسيه في الأرجنتين يكتشفون أن موعد القطار إلى بيونس آيرس بعد أسبوع. وهناك في هذه القرية الصغيرة النائية يجدون سورياً يساعدهم في العثور على مكان ينامون فيه، ويشبه وضع السوريين في أميركا اللاتينية بوضع اليونانيين في مصر، نظراً لكثافة وجودهم في جميع الأمكنة.

بعد أسبوع يركبون القطار من محطة "سان خوسيه"، ويصلون في اليوم التالي إلى بيونس آيرس، ويروي لنا جملة من الأخبار الطريفة حول ما جرى معهم في الطريق، ومن ذلك عبور القطار على الماء كأنه سفينة!، وحدوث مشكلة مع رفيقه استدعت طلب الأوراق منهما، ولكن الريحاني ادعى أمام الضابط أنه في سفرة داخلية وأن زوجته وابنته في انتظاره كما سيرى، وفعلاً كانت بديعة مصابني قد أعدت فرقة موسيقية في استقباله، وهو ما اضطر الضابط لأن يتركه وصاحبه.

وفي العاصمة الأرجنتينية؛ كانت مصابني قد أعدت كل شيء على أحسن ما يرام، واستأجرت المسرح الذي سيعملون فيه، "فلما حان موعد التمثيل، لم يتملكنا شيء من الاضطراب الذي شعرنا به في أول مرة بسان باولو، بل ظهرنا بقلب جامد، ونجحنا نجاحا كبيراً كذلك. وطنطنت الصحف هناك بالفرقة وأفرادها ومقدرتهم التمثيلية، وخلعت علي لقب "برافتشيني دلا كايرو" أي برافتشيني القاهري، وبرافتشيني هذا، هو ممثل من أساطين الفن في تلك البلاد".


محبة السوريين

ويقول معلقاً على الترحيب الكبير الذي لقيه في أميركا اللاتينية: "كانت محبة إخواننا السوريين لي وللفرقة طوال المدة التي تنقلنا فيها بأميركا الجنوبية مما يجل عن الوصف. أحيينا أربع ليال في بونس آيرس كان النجاح فيها حديث الجميع، ثم زرنا مدن روساريو وقرطبة وتوكومان. وهناك كنت أنشر الخريطة بين يدي، وأضع إصبعي عند المكان الذي نحن فيه ثم أنقله إلى موقع مصرنا المحبوبة، وبعد ذلك عدنا إلى بوينس آيرس مرة أخرى، ومثلنا بعض الروايات. والغريب أن الجمهور كان لا يكاد يسمع صوتي من بين الكواليس قبل الظهور على المسرح، حتى يصرخ مصفقا، وكأننا نمثل بين جمهورنا المحبوب في مصرنا العزيزة".

ومن الأرجنتين يعود الريحاني وفرقته إلى البرازيل متخذين الطريق نفسه، فيمرون على مونتيفيديو ويحيون هناك حفلات عدة، وفي البرازيل، كانت شهرتهم قد طبّقت الآفاق، فمثلوا في المسرح الإمبراطوري، وكان الحضور مثل النمل كما يقول. وبعد انقضاء أيام التمثيل قرروا العودة إلى مصر، فيعرجون في طريقهم على باريس، ويمضون 15 يوماً في التسوق والتنزه، إلى أن يعودوا إلى الإسكندرية، وتلك كانت نهاية الرحلة الطريفة.

المساهمون