ميلاد في النزوح

15 اغسطس 2024
مقطع من عمل للفنانة الفلسطينية صبحية حسن قيس
+ الخط -

ما كنت أخشاه وما زلت، أن أرجع إلى السطور الأولى من الدرس الأول ذي العنوان الأكبر في تاريخنا، ليس من الخراريف أو من وحي الخيال، ولا استعطاف أو استبكاء لجلب المصفقين والمهللين لما سيتم ذكره، بقلمٍ لا يرى الضوء، لا يشتمّ ولا يتذوق ما يحلو له، أقف على أعتاب هشة، لا تنادي بما تهوى فأنا بين قوسين لي اسم واحد، أعلم أنّ عدد أيامها يزداد ظلماً، نحن على مقربة من غروب شمس المدينة، المتكئة على جذوع الأشجار الملقاة على الطريق، فاقدة الظل، شحيحة الماء، خالية المارة، متناثرة الأشياء، شاحبة الوجه.

تبدأ علامات طقس الليلة، راعدة، ماطرة، ريحها عاصف، أنا وأبنائي الخمسة ملتحفون الجسد من شدّة البرد، أعشق هذه الأجواء من طقس الشتاء، ويزداد عشقي لها حين يصاحبها موقد النار، فنجان قهوة وحكايات من زمن ماضٍ يشبه زمني كأنه ثابت لا يتغير، تنهيدة تعصف بالجالسين على أهبة الاستعداد، مصدرها جدّة الأولاد وهي تقرأ على أصغرهم آيات قصيرة من القرآن الكريم، ليتسنى لهم النوم منذ ليال لم يذق طعمه، من شدّة اهتزاز الأرض من قصف الطائرات المغيرة.

عادت شمس النهار في صباح، لا صوت فيه لبائع الحليب، ولا نهيق الحمير، خافتةً الشعاع من غبار الأرض المحروقة، زقزقة العصافير ضئيلة، صوت المدفعية يوقظ النائمين من ساعة فقط، هل هذا صحيح يا أبي بما ينادي فيه جيش الاحتلال؟! إذن إلى أين سنذهب؟ فيض من التساؤلات المرتجفة، حين أعددت اجتماعاً قصيراً جداً، سنخرج من بيوتنا نازحين يا أبي؟!  فالوقت المحدد لنا أخذ بالنفاذ، بحسب تعليمات جيش الاحتلال.

■ ■ ■

يزداد ضرب المدفعية كلما نقصت دقيقة واحدة من الساعة، حتى أصبحت تتساقط على جوانبنا الأربعة، أتظاهر بصورة المتماسك كي لا يتفشى الرعب في قلوب أبنائي وأمهم بالمثل، يلتقط البصر مزيداً من الصور يدرك أنه في حاجة إليها، يلامسُ مرافق البيت بأنامل ضعيفةٍ مرتجفة، يصعب علينا الخروج نحو المجهول، لا قرار حتى الآن، ترتطم قذيفة المدفعية بجدار البيت فقد أصبح القرار متخذاً، نحن منبطحون وأيدينا فوق رؤوسنا؛ إنها الحرب. 

اقتربت شمس ظهيرة يوم النزوح وجلبت معها المزيد من العرق، كما طائرات الاستطلاع المراقبة لكل متحرك، أُغلق باب البيت بقطعة من الجنزير وأنا أدرك أن لا فائدة من ذلك، ولكن هذا قرار والدتي ليصعب عليهم الدخول، تخترق المدفعية بصوتٍ مدمر، تتطاير حجارة غرفة النوم وغيرها وأنا أقف على رأس الشارع المؤدي إلى بيتي أثناء المغادرة، تلحق بها قذيفة أخرى لم يبق أمامنا إلا النجاة بأنفسنا، ساعات قليلة هي الباقية للوصول إلى منطقة النزوح المحددة لنا غير الآمنة مشياً نَعتِلُ غطاء أجسادنا، بعض الملابس، فراش نومنا، قوارير ماء فارغة، تتعدّد ألوانها. 

حرَق الجيش مكتبتي وهنا الصدمة الكبرى، لأنّها تعني لي كلّ شيء، ورثتها عن أبي. مكتبة فلسطينية بامتياز

حين اقتربت شمس الغروب، قلتُ: توقفوا سننصب هنا خيمتنا للمبيت، يسقط الجميع أرضاً من عذابات الحرب، يستلقون على ظهورهم من شدة التعب، غير شاعرين بالعطش والجوع مما شاهدنا في طريقنا إلى هنا من ويلات وآهات لا تنسى، أخذ العقل يسترجع ما شاهده في طريق النزوح، يبدأ العقل الأول، ما هذا يا جدتي؟! اقرأ الفاتحة عليه وغطّ رأسه بقميصه وضعه بجانب الرصيف، ينهض العقل الثاني من الأبناء باكياً، أتعتقد يا أبي، ما شاهدنا من نارٍ مشتعلة في عربة الإسعاف قد أطفئت، وما مصير من فيها؟ أم أنهم احترقوا كما العربة. ترفض باقي العقول أن تضع في ذاكرتها ما شاهدته أثناء النزوح من أرجل مبتورة، وأذرع أيضاً، ورجال ونساء وأطفال محمولة إلى القبور، انهضوا نحن على أعتاب الليل وبرده القارس لننتهي من خيمة تؤوينا، يصعب علينا بناؤها، يقترب بعضنا من بعض وأيدينا مرفوعة إلى سماء بلا قمر، داعين الله.

■ ■ ■

تفككت الغيوم، وهدأ برق السماء من ليلة نزوح أجزم أن بها المطر، نمت ومن معي من أسرتي وأسر النازحين في عراء، يغزوه نباح الكلاب، وفجراً يفتقد صياح الديك، وصحوة من نوم كاذب على طابور ماء ورغيف. كاد كتفي يخرج من مكانه من تزاحم المنتظرين للقمة العيش وشربة ماء، نجوت بهم بأعجوبة، تفقّدت ملابسي حين انتهيت، هو اليوم الأول لنزوحي إلى مدينة رفح، جاء من لديه خبرة من شباب المدينة وساعدنا في بناء خيمتنا بين تلال الرمل (المواصي) انتشرت بينهم ومعي أولادي، لجلب أغصان الشجر، وموقداً لطهي عدس الغداء.

بدأت معاناة النزوح تكبر وتتسع. لون البشرة الشقراء والبيضاء تساوت مع السمراء من حرارة الشمس التي تحتفظ بها خيمتنا، والتي تفوق الدرجة المئوية. 

وحين جاء رمضان، وفي الليل حين أُعلنتْ رؤية هلاله يدخل ابني علينا الخيمة وبكل حرقة دم وعصبية، يقول: لا أريد أن أعرف شيئاً، فقط أريد نجمة وهلال رمضان لأعلقها على باب الخيمة فرحاً بقدومه، ويحذر أمه يا ويلك إن نسيتِ أن توقظيني على السحور، أنا كبرتُ وأريد صوم اليوم الأول فقط، هذا كان وعد أمه له قبل الحرب، والآن اختلف الأمر. يدرك صغيرنا أنه يعاني الجفاف من دون صوم.

كنت آمل العودة إلى بيتي قبل الشهر السابع، لكن  الحرب المدمرة مستمرة، وأعداد الشهداء تجاوزت رقماً يصعب عليّ كتابته. لا أفكر إلا في العيش الكريم والحرية المطلقة، هذا اليوم الأخير لشهر رمضان ، أقف أمام المرآة متردداً وراجياً، ولولا حلف يمين والدتي وزوجتي معاً ما كنت وقفت استعداداً ليوم غد العيد، صُعقت وأنا أنظر إلى المرآة من رؤية وجهي الناحل، الأسود، وشعري غير المنظم، ولحيتي البيضاء.

قفزتُ فرحاً، وأيقظتُ أسرتي، خرجت من خيمتي أتساءل عن سبب الزغاريد، فإذا بجارتنا في النزوح أنجبت ولداً

ذرفت الدمع، على ما رأيت في المرآة، تزامناً مع إبلاغي أن بيتي قد سوّي بالكامل في الأرض، وأحرق الجيش مكتبتي قبل التسوية، وهنا الصدمة الكبرى، لأنها تعني لي كلّ شيء، فقد ورثتها عن أبي. مكتبة فلسطينية بامتياز. تركتُ لحيتي وشعري كما هما، وغادرتُ خيمتي صائماً، لا أعرف إلى أين أتجه، أخذت أقلبها كتاباً كتاباً، أضحك وأنا أتجول بين خيام النزوح في مدينة رفح، أثارت الضحكات الكثير ممن تجاوزتهم وأنا أردد أسماء الكتب المقروءة وغير ذلك.

كل عام وأنت بخير أستاذي ألم تعرفني بعد؟! كيف لا أعرفك العتب على النظر يا بني، قلّي أي من الطرق ترجعني إلى منطقة النزوح الأكبر منطقة العطار المجاورة للحدود المصرية، تفضل أستاذي من هنا.

■ ■ ■

انتهت أيام العيد الثلاثة، كما شهر رمضان، والأمل يتجدّد بلا غارات بعد اليوم لطائرات تقتل وغيرها من آليات حرب، وأن يُشفى الجلد والرأس مما يجعلك كالمجنون ليل نهار، لا دواء والشفاء ضعيف، وتفشّي المرض يزداد بين النازحين بجانب ويلات كثيرة جلبتها الحرب، وطقس الصيف سيشعل الخيام ناراً من حرارته.

يُطلّ علينا اليوم الأول من الشهر التاسع للحرب في حزيران/ يونيو، وقد نزحتُ من مدينة رفح إلى مدينتي مسقط رأسي خان يونس المنكوبة التي أوجعت قلبي كلما مررت بها وتعمقت بشوارعها، وضعتُ خيمة النزوح للمرة الثانية بين تلال رملها، أنا ومن معي من مدينة رفح، وفي منتصف ليل حربٍ ضَروس، سماتها العنصرية، والإبادة الجماعية، والتدمير، الأمل فينا أن ننجو بأرواحنا، يعلو صوت الزغاريد من خيام النازحين المجاورة، اعتقدت أن الحرب انتهت، قفزتُ فرحاً، وأيقظتُ أسرتي، خرجت من خيمتي أتساءل عن سبب الزغاريد، فإذا بجارتنا في النزوح أنجبت ولداً.
 

* قاص من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون