باريس
الثلاثاء 1 حزيران 2021
تركتُ الدفتر على جانبٍ كلّ هذه الفترة الماضية... دخلتُ في طقس شبيه بالعصف الذهني أسميه عصف الكتابة.
كتبتُ شيئاً كالهذيان، كالجنون، على دفترَين جميلين أهدتهما لي آنيت. تركتُ فوق الورق كلّ جنون وتهويمات صباحات شتاء كورونا الفائت لأنّي أعتبر أنّ للسرد مجراه ومنطقه الشبيه بمنطق الحلم، له تجانسه السرّي وهو خارج تَحَكُّمِنا، كالحلم تماماً. التزمتُ البقاء في البيت. عدتُ للكتب التي قضيت سنوات في تأمّلها. شيء من التراث، عدت لأبي علي مسكويه في "جاويدان خرد" ("الحكمة الخالدة")، وإلى الوزير ابن فاتك في "مختار الحكم"... وشيء من الكلاسيكيات المعاصرة مثل كتاب "انهيار الغرب" أو "تدهور الغرب" (Le déclin de l’occident) الذي يؤكّد استحالة انتقال الثقافات بين الشعوب رغم ما يبدو في الظاهر من تواصُل يراه اشبنغلر تواصلاً كاذباً. الوضع شبيه بما يتمّ اليوم في عالم العرب، حيث يكرِّر كثير من المثقّفين قيَم ومفاهيم الآخر كما لو أنها نماذج كونية قابلة للاستنبات في ثقافات أُخرى مغايرة... وهؤلاء استمرار للمدرسة النهضوية في التحديث الكولونيالي التي دشّنها الخديوي إسماعيل. الغرب بالنسبة إلى هؤلاء صيدلية تحوي جميع أدوية وعلاجات أمراضهم؛ كما يقول إدوارد سعيد.
مثل الطفل الذي يقلّد الكبار ليصير مثلهم.
باريس
الأحد 6 حزيران
باريس تعود بعد كورونا. الأرصفة ضاجّة. الفرنسيون في سعادة غامرة. مقاهي الرصيف صخبُ ضحكٍ عالٍ، شباب، نساء ورجال في مقتبل العمر بأردية الصيف الهفهافة البيضاء والخبّازية والزرقاء الفاتحة في ضوء شمس برتقالية تشعل الأجواء. تذكّرتُ تلك الفقرة من كتاب رافع رفاعة الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، أو "الديوان النفيس في إيوان باريس"، حيث أبدى استغرابه لهذا الطبع الفرنسي الانفعالي، لهذا المزاج الفرنسي المتقلّب... لعلّ الشيخ تعجّب من ذاك الانطلاق في الضحك الذي كان يقول عنه الفقهاء إنه يُميت القلب.
باريس
الاثنين 7 حزيران
صباحٌ مضيء. الحشرات تتحرّك نشِطةً في ضوء الشمس الذي يغمر حديقة الشتاء كما يسمّي الفرنسيون الحدائق الداخلية المغلقة ولو كانت في عزّ الصيف. شجرة بانبو صغيرة جنب شجرة ورد صغير بها وردتان في أكمامهما... في المساء أصغي إلى زقزقة العندليب، آه العندليب الأسود الربيعي يأتي منذ ملايين السنين... على الأرضية الخشبية أمام البيت تمرّ خنفسة الكوكسينال الحمراء المرقّطة بالأسود التي إذا ما وقعت عليك فيعني ذلك أنك ستنال كسوةً جديدة... هنا، كما لو أنّني لست في باريس، أنا في قلب الريف الفرنسي، الطبيعة المخضلّة والصمت يملأ العالم، لولا البنايات العالية وسقوف القرميد الأحمر التي تعيد لي الإحساس بأني في المدينة.
آرل
الثلاثاء 15 حزيران
رصيف مقهى "فندق بينوس" العتيد. الحرارة شديدة في "ساحة الفوروم". الأشجار العملاقة جامدة، مؤشّر الحرارة يشير إلى 33 درجة في مدينة على الماء مثل تونس؛ حرارة مع رطوبة تعني الجحيم. أحبّ هذا الفندق الذي يعيدني إلى كتّاب ما بين الحربين... إلى إرنست هيمنغواي الذي كان يتوقّف فيه لدى ذهابه إلى بنبلونة في إسبانيا لحضور مواسم مصارعة الثيران، إلى بليز سندرار الذي اجتاز العالم وهو قبل العشرين. سندرار الشخصية الغنائية المغامرة، سندرار الشاعر والروائي والصحافي كاتب التحقيقات الذي عبر العالم في قطارات وبواخر ما بين الحربين، من نابولي إلى باريس إلى سان بطرسبورغ التي هرب إليها وهو في السابعة عشرة من عمره، إلى نيويورك إلى البرازيل...
كتب:
"إذا ما رغبتَ يجب أن تنطلق
اترك زوجتك اترك طفلك
اترك صديقك اترك صديقتك
اترك حبيبك اترك حبيبتك
إذا ما رغبت يجب أن تنطلق..."،
لأن السفر محرّض أيضاً على الكتابة...
فندق بينوس يذكّرني ببيكاسو، بهنري ميلر، بذاك الجيل من متصعلكي العالم، أولئك الذين رعوا الشعلة المقدّسة في أعماقهم، والذين ــ كما يقول عنهم بليز سندرار ــ كانت الكتابة لديهم هي أن تحترق حيّاً وتُبعث من رمادك... وأن تبدع الكذب الذي هو صدقٌ آخر...
أجل، أشعر بالنوستالجيا لزمن نقيض زمننا اليوم، حيث كما يقول هنري ميلر تحوّل الكتّاب فيه إلى برجوازيين صغار، إلى كتبة نصوص توثيقية بلا رؤية. هذا قبل خمسين سنة، أمّا اليوم فنحن نشهد ميلاد الكتّاب الأمّيّين...
آرل
الأحد 20 حزيران
مضت أيّام في آرل، مفعمة بالأفكار والتأمّلات والحوارات مع أصدقاء من المثقّفين: المؤرّخ فيليب ريغو، صديقي إيريك بيني الذي عرفته وهو في العشرينيات يرتدي القشابية البربرية السوداء ذكرى رهبان أفريكا الرومانية، ذكرى قرطاجنة التي منحت المسيحية مذهبها الكاثوليكي. غادر إيريك سلك الرهبان وتزوّج، ويقيم اليوم في نواحي بوردو. قال على الهاتف: "أتممت أخيراً وضع كتاب في اللاهوت عنوانه "يسوع = كريست"، معتمداً على خلفية فلسفية تتمثّل في منجز سورين كييركغارد، أي أعتمد على التيار اللاعقلاني في الفلسفة الحديثة؛ التيار الذي دشّنه كييركغارد مع نيتشه ومَن جاء بعدهما من مذاهب ظاهراتية ووجودية وشخصانية". إيريك نقيض هؤلاء العرب الذين يعالجون اليوم السؤال الديني من مقترب فلاسفة التنوير. وتراهم وقد سقطوا في ممارسة ميكانيكية فجّة، بل عقلانيّتهم لا تعدو أن تكون شعاراً، وفي أحسن الأحوال تراهم يحوّلون إرث فولتير وجان جاك روسّو وديدرو إلى أيديولوجيا. نحن نشهد عصر فلاسفة فيسبوك... أيّ انحطاط!
آرل
الاثنين 21 حزيران
ريحٌ في الأشجار الكبيرة وراء النافذة. ريحٌ رخية ــ كما تقول العرب ــ تحت سماء آرل الزرقاء، وطيور المارتينات الشبيهة بالخطّاف تتحرّك بسرعة في دوائر في الفضاء... لعلّ العرب سمّت الخطّاف خطّافاً لأنه يطير بشكل خاطف... أفكّر في اللقاء الذي دار في "معهد الترجمة الأدبية" مع الكاتبة المصرية التي تعيش في كندا، تحدّثتْ عن كتابها الصادر أخيراً في ترجمة فرنسية عن "دار أكت سود". لقاء لم يُقَل فيه شيءٌ... الكتاب مجرّد نص وثائقي وشهادات لا أكثر عن حياة حزينة لامرأة انتحرت في السابعة والعشرين أوّل الستينيات. بدا الكتاب نصّاً توثيقياً، لا أكثر. طبعاً، كان فرصة للكاتبة لإعادة إنتاج الصورة الغربية النمطية للعرب كما حلّلها وانتقدها إدوارد سعيد في كتابيه "الاستشراق" و"تغطية الإسلام". كرّرت الكاتبة السردية المحبّبة للغرب، نقد وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية، شيطنة الإسلام ورجال الدين بشرط أن يكونوا مسلمين، كما لو أنّ الأديان الأخرى تخلّت عن الإكليروس...
حضرني بورتريه الشخصية الكولونيالية كما رسمها ألبرت ممي في كتابه Le portrait du colonisé، أو "صورة المستعمَر"، بفتح الميم، الذي يكرّر خطاب "سيّده"... وتحليلات نايبول لمواقف الملوّنين المضطربة من الغرب...
قبلهما كان ابن خلدون قد حلّل ولع المغلوب بتقليد الغالب...
اليوم، قائمة طويلة من الكتّاب العرب تتقمّص الشخصية الكولونيالية وتنخرط في تكرار هذا الخطاب الغربي الكولونيالي الجديد الذي دشّنه شيمون بيريز يوم سقوط سور برلين، حين قال: انتهينا من الخطر الشيوعي واليوم نواجه الخطر الإسلامي. وبدأ العمل من كاريكاتير هولندا إلى كاريكاتير "شارلي إيبدو" إلى مئات الكتابات الفكرية والأدبية التي تندرج في هذه الأجندة التي انخرط فيها اليوم كتّاب من بلداننا: من بنغلاديش تسليمة نسرين، من باكستان ملالا يوسفزي، من الجزائر بوعلام صنصال وكمال داود... وكثُر من مصر والمغرب ولبنان وتونس من رسل حداثة التنوير.
الغرب أيضاً يمارس ستالينية فكرية ناعمة، ثمّة مكتبة كاملة للثقافة المضادّة لعل ألان سورال (A. Soral) وفرنسوا أسيلينو (F. Asseleneau) من أهمّ ممثّليها...
تذكرت أوبير نيسان، صاحب دار "أكت سود"، الذي عرفتُه هنا قبل سنوات طويلة، وهو أحد بطارقة هذا التيار... كان هناك أستاذ عربية، البلجيكي كزافييه رافاران، اختصاصه ترجمة كلّ النصوص التي كتبها الزنوج العرب، هو يصنّف الأدب حسب لون البشرة ومتألّم لحالة الأقلّيات وسط المتوحّشين عبر التاريخ العربي. أي، وصلنا اليوم إلى حقبة شيطنة الحضارات غير الغربية بعد الحديث عن صراع الحضارات الذي مضى عليه أكثر من عقدين...
وممّا ساعد اليوم استيلاء العالم الرقمي على كامل المجال الثقافي واختفاء الناقد الحصيف. النصّ المهمّ هو النص/ الصورة في الميديا. لم يعد المحتوى في حقبة الصورة هو الأساس، صارت الصورة هي الجوهر. تقول الفيلسوفة والمحلّلة النفسية إلزا غودار (Elsa Godart): الثورة الرقمية عطّلت تعريف الذات بسبب هذه الصور المتدفّقة، العابرة...
* شاعر ومترجم تونسي