مدن غير مرئية.. لماذا تحدّثني عن الأحجار؟ (9)

12 ديسمبر 2021
"جِسر القناة في فليكفيورد" لـ هارولد جيلمان (بريطانيا)، زيت على قماش، 1913
+ الخط -

يصف ماركو بولو جسراً، حجراً حجراً.

ـ "ولكنْ أيُّ حجر ذلك الذي يسند الجسر؟"، يسأل قبلاي خان.
ـ "لا يسند الجسرَ هذا الحجرُ أو ذاك"، يجيب ماركو، "ولكنْ خطُّ القوس الذي شكّلته الأحجار".

يظلّ قبلاي خان صامتاً، متأمّلاً، ثم يضيف:
ـ "لماذا تحدّثني عن الأحجار؟ القوس وحده ما يعنيني".

يجيب بولو: "من دون أحجارٍ لا وجود لقوس".


■ ■ ■


"هل حدثَ أن رأيتَ مدينةً تُماثل هذه في يوم من الأيام؟".

سأل قبلاي خان ماركو بولو، مادّاً يده المغطّاة بالخواتم من تحت ظِلّة المركب الإمبراطوري الحريري ليشير إلى الجسور المقوّسة فوق القنوات، القصور الأميرية التي غمرتْ درجات أبوابها الرخاميّة المياه، انطلاق مركب صغير يتعرّج مدفوعاً بمجاذيف طويلة، الزوارق وهي تُفرغ سلال الخضروات في ساحات الأسواق، الشرفات، سلالم المباني، القباب، أبراج الأجراس، حدائق الجُزُر المتوهّجة بالخضرة في رمادية بحيرة الشاطئ الضحلة.

كان الإمبرطور، يرافقه أجنبيُّه ذو المقام الرفيع، يزور كن ـ ساي، عاصمة الأسرات القديمة المخلوعة، وأحدث لؤلؤة توضع في تاج الخان الأكبر.

الأكثر صعوبة هو أن تثبّت على الخريطة مسار طيور السنونو

"لا يا سيّدي"، أجاب ماركو، "لم أتخيّل أبداً أن مدينة مثل هذه يمكن أن تُوجد".

حاول الإمبراطور التحديق في عينيه. خفضَ الأجنبيّ نظرتَه. وظلّ قبلاي صامتاً طيلة النهار.

بعد غروب الشمس، على مصاطب القصر، شرح ماركو بولو للعاهل نتائج مهمّاته. كقاعدةٍ، يُنهي الخان الأكبر يومه بالاستمتاع بهذه الحكايات بعينين نصف مغمضتين إلى أن تصدر أوّل بادرة تثاؤب منه، في إشارةٍ إلى مجموعة الوُصَفاء، ليُضيئوا المشاعل التي تقود العاهل إلى جناح المهجع الصيفي. ولكنّ قبلاي بدا هذه المرّة غير راغب بالاستسلام للتعب وأصرّ: "احكِ لي عن مدينة أخرى". فاستأنف ماركو قائلاً: "... ومن هناك تُغادر وترحل راكباً طيلة ثلاثة أيام بين الشمال الشرقي والشرق مع الرياح الشمالية الشرقية..."، معدّداً أسماء وعادات وسِلَع عدد كبير من الأراضي. يمكن أن يقال عن ذخيرته إنها ممّا لا يُستنفد، إلّا أنه هو مَن كان عليه أن يستسلم الآن. كان الفجر قد انبلج حينما قال: "والآن يا سيّدي، حكيتُ لك عن كّل المدن التي أعرف".

"ما تزال هناك واحدة لم تتحدّث عنها أبداً".

 أحنى ماركو بولو رأسه.

"فينيسيا"، قال الخان.

ابتسم ماركو. "وهل اعتقدتَ أنني كنتُ أحدّثكَ عن غيرها؟".

لم يُظهر الإمبراطور هزّةً. "ومع ذلك لم أسمعكَ تشير إلى هذا الاسم".

فقال بولو: "في كلّ وقت أصف فيه مدينة، أقول شيئاً ما عن فينيسيا".

"حينما أسألكَ عن مدن أخرى، ما أريده هو أن أسمع عنها، وعن فينيسيا حين أسألكَ عن فينيسيا".

"لأميِّز خصائص المدن الأخرى، لا بدّ أن أتحدّث عن مدينةٍ أولى، تلك التي تظلّ ضمنيّةً، وبالنسبة إليّ: هي فينيسيا".

"عليكَ، إذاً، أن تبدأ كلّ حكاية من حكايات رحلاتك من لحظة المغادرة، واصفاً فينيسيا كما هي، كلّ شيء عنها، غير مُهمِلٍ أيّ شيء تتذكّره عنها".

كان سطح البحيرة متجعّداً قليلاً؛ وكان الانعكاسُ النحاسيّ لقصر أُسرة سونغ القديم كسْراً تحوّل إلى ومضات متألّقة تشبه أوراق شجر طافية.

في كلّ وقت أصف فيه مدينة، أقول شيئاً ما عن فينيسيا

قال بولو: "صوَر الذاكرة، ما أن تثبت في كلمات، حتى تُمحى. ربما أخشى فقدان فينيسيا كلّها دفعة واحدة، إذا تحدّثتُ عنها. أو ربّما أنني، بحديثي عن مدن أخرى، فقدتُها سلفاً، شيئاً فشيئاً".


■ ■ ■


مدن متاجِرة (5) 

في إسميرالدا، مدينةِ المياه، تمتدّ شبكةُ قنواتٍ وشبكةُ شوارعٍ يقاطع بعضها بعضاً. للذهاب من مكان إلى آخر، لديك دائماً خيارٌ بين أرضٍ وزورق: وبما أن المسافة الأقصر بين نقطتين في إسميرالدا ليست خطّاً مستقيماً، بل تعرّجٌ يتشعّب إلى طرقاتٍ اختيارية متلوّية، فإن الطرق التي تنفتح لكلّ عابر ليست اثنتين أبداً، بل عديدة، وتزداد أكثر بالنسبة إلى الذين يناوبون بين نزهةً بزورق ونزهةٍ على اليابسة.

وهكذا يتجنّب سكان إسميرالدا مَلَلَ السير في الشوارع نفسها كلّ يوم. وليس هذا كلّ شيء: شبكة المسارات ليست منظّمة على صعيدٍ واحد، بل تتبع بدلاً من هذا طريقَ درجات صاعدة ـ هابطة، سلالمَ مبانٍ، جسوراً مُحدودبة، شوارع معلّقة. بالجمع بين أجزاء المسارات المتباينة، المرفوعة أو التي على مستوى الأرض، يتمكّن كلّ ساكن من الاستمتاع يومياً بلذّة خطّ رحلة جديد للوصول إلى الأماكن نفسها. إن الحياة الأكثر هدوءاً وثباتاً تنقضي في إسميرالدا من دون أيّ تكرار.

الحياة السِرِّيّة والمغامِرة، هنا كما في أيّ مكان آخر، تخضع لقيودٍ أعظَم. قِطَطُ إسميرالد، لصوصُها، عشّاقها غير الشرعيين، يتحرّكون على امتداد طرق أعلى، متقطّعة، هابطين من قمّة سطح إلى شرفة، متتبّعين مسار القنوات بخطواتٍ بهلوانية.

تحت، تجري الجرذان في ظلمة البواليع، واحداً وراء ذيل الآخر، سويّةً مع المهرّبين والمتآمرين: إنهم يختلسون النظر من فتحات البواليع وأنابيب التصريف، ينزلقون عبر قيعان وخنادق متضاعفة، يسحبون من مخبأٍ إلى آخر كِسَر جبنة، سلعاً مهرّبة، براميل بارود، مجتازين اكتظاظ المدينة المخترَق بتشعّبات ممرّات تحت الأرض.

إن خريطةً لإسميرالدا يجب أن تتضمّن كلّ هذه المسارات، صلبةً وسائلة، واضحةً ومخفيّة، معلّمةً بأحبار ملوّنةٍ مختلفة. الأكثر صعوبة هو أن تثبّت على الخريطة مسارات طيور السنونو، تلك التي تجرح الهواء فوق السطوح، هابطةً قُطوعاً مكافئة طويلة غير مرئية، ثابتة الأجنحة، مندفعةً لابتلاع بعوضةٍ، متلولبةً صعوداً، تلامس برجاً مَسَّاً خفيفاً، مهيمنةً من كلِّ نقطةٍ من نقاط مساراتها الهوائية على كلِّ نقطةٍ في المدينة.


■ ■ ■


مدن وعيون (4)

حينما تصل إلى فيلس، تبتهج بملاحظة أنّ كل الجسور فوق القنوات، كلّ واحد منها مختلفٌ عن الآخر: محدودبة، مغطّاة، قائمة على أعمدة، على زوارق، معلّقة، ذات حواجز شُرفاتٍ شجريّة الزخارف. ويا لَها من تشكيلة نوافذ تُشرف على الشوارع: معّمدة، موريسكية، رمحية، مستدقّة الرأس، متوجّة بأهِلّة مزخرفة أو ورود من زجاج ملوّن؛ وكَم سطحٍ مرصوف يغطّي الأرض: حصى، بلاط، حصباء، قرميد أزرق وأبيض. في كلّ نقطة تعرض المدينة على نظرتك مفاجآتٍ: شجيرة قبّار ذات براعم وأزهار تنتأ من جدران القلعة، تماثيلُ ثلاثِ ملكات على أطناف جدار حجريّة، قبّة بَصَليّة مع بَصَلاتٍ أصغر متلولبة حول القمّة. وتهتف: "سعيدٌ ذلك الذي يحظى بفيلس أمام عينيه كل يوم، وذلك الذي لا يتوقّف أبداً عن رؤية الأشياء التي تحتويها"، آسفاً أن عليك مغادرة المدينة وأنت بالكاد تستطيع مسَّها مسّاً رفيقاً بنظرتك العجلى.

سعيدٌ ذلك الذي يحظى بمدينة فيلس أمام عينيه كل يوم

ولكنْ، بدلاً من ذلك، يحدث كثيراً أنك يجب أن تبقى في فيلس، وتقضي بقيّة أيامك هناك. وسرعان ما تتلاشى المدينة أمام عينيك، تنمحي نوافذ الورود، التماثيل على أطناف جدار حجرية، القِباب. ومثل كلّ سكّان فيلس، تتبع في سيرك خطوطاً متعرّجة من شارع إلى آخر، تمّيز بقَع ضوء الشمس من بقع الظلال، باباً هنا، درجاً هناك، دكّةً حيث تستطيع وضع سَلّتك، حفرة حيث تزلّ قدمك إن لم تكن حذراً. بقية المدينة كلّها غير مرئية. مدينة فيلس فضاءٌ تُرسم فيه مساراتٌ بين نقطٍ معلّقةٍ في الفراغ: الطريق الأقصر للوصول إلى تلك الخيمة المعيّنة لتاجر يتجنّب تلك النافذة المعيّنة لدائنٍ. خطواتك لا تتبع ما هو خارج العينين، ولكنْ ما هو في داخلها، مطمورٌ ومطموس. بالنسبة إلى رِواقَيْن مقنطَرَيْن، إذا ظلّ أحدهما يبدو مُبهِجاً أكثر، فما ذلك إلّا لأنه قبل ثلاثين سنة مرّت هناك فتاة ذات كُمَّيْن واسعين مطرّزين، أو، خلاف ذلك، قد يكون السبب الوحيد هو أن ذلك الرواق يلتقط الضوء في ساعة معيّنة مثل ذلك الرواق الآخر، ولا تستطيع أن تتذكّر أين.

ملايين العيون تتطلّع إلى النوافذ، الجسور، شجيرات القبّار، وربّما تكون تُنعِم النظر في صفحة كتابٍ بيضاء. عديدة هي المدن شبيهة فيلس التي تُراوغ نظرات الجميع المحدقة باستثناء ذلك الإنسان الذي يأخذها على حين غرّة.


* ترجمة: محمد الأسعد

المساهمون