مدن غير مرئية.. أسبرُ منابعَ السعادة الضئيلة (6)

20 نوفمبر 2021
"بعد زمنٍ طويل" لـ بير كيركبي / الدنمارك
+ الخط -

مدنٌ متاجِرة (2)

في كلويي، وهي مدينة عظيمة، الناس الذين يتحرّكون عبر الشوارع كلُّهم غرباء. في كلّ مواجهة، يتخيّل كلُّ واحدٍ منهم عن الآخر ألفَ شيء؛ لقاءات من تلك التي قد تحدث بينهم، محادثات، مفاجآت، عناقات، لسَعات. ولكنْ لا أحدَ يحيّي أحداً؛ تلتقي العين بالعين لثانيةٍ، ثم تندفع بعيداً، باحثةً عن عيون أخرى، من غير توقُّفٍ أبداً.

تجيء فتاةٌ تبرم مِظلّة خفيفة على كتفها، وتبرم بلا مبالاة ردفيها المستديرين أيضاً. تجيء امرأةٌ ترتدي ملابس سوداء، مُظهرةً بلوغها سِنّ الرشد، عيناها قلقتان تحت نقابها، شفتاها ترتعشان. يجيء عملاقٌ موشوم؛ شابٌ ذو شعر أبيض؛ أنثى قزم؛ فتاتان توأم ترتديان ثوباً بلون المرجان. شيءٌ ما يجري بينهم، تبادُل نظرات مختلسة تشبه خطوطاً من التي تربط هيئةً بأُخرى، ترسم سهاماً، نجوماً، مثلّثات، إلى أن تستنفد كلّ التركيبات في لحظة، وتدخل المشهد شخصياتٌ أخرى: رجل أعمى مع فهد بسلسلة، مومس مع مروحة من ريش النعام، شابٌّ إغريقي يتأهّل للمواطنة الكاملة، امرأةٌ بدينة.

وهكذا، حين يحدث أن يجد بعض الناس أنفسهم معاً، مُحتمين من المطر تحت رواق، أو متجمّعين تحت سقيفة السوق، أو متوقّفين للإصغاء الى فرقة موسيقية في الساحة، تتحقّق بينهم لقاءاتٌ، إغواءات، مضاجعات، طقوس عربدة. من دون تبادل كلمة، من دون أن يلمس أصبعٌ أي شيء، من دون أن ترتفع عينٌ تقريباً.

ثمة موجة شهوانية تهزّ كلويي، المدينةَ الأكثر عِفّة بين المدن، هزّةً متواصلة. لو أن الرجال والنساء بدأوا يعيشون أحلامهم العابرة، فسيغدو كلّ طيفٍ شخصاً تبدأ معه قصّةُ مطاردات، ادّعاءات، إساءات فهم، صِدامات، مظالم، ولَتوقّف عرضُ الأُخيولات الجامحة.


■ ■ ■


مدنٌ وعيون (1)

بنى القدماءُ فالدرادا على ضفاف بحيرة، ذات بيوتٍ جميع شرفاتها تقع واحدة فوق الأخرى، وشوارع مرتفعة تُشرف حواجزها المسيّجة على المياه. لهذا يشاهد المسافر لدى وصوله مدينتين: واحدة منتصبة فوق البحيرة، والأخرى منعكسة فيها رأساً على عقب. لا شيء يظهر إلى حيّز الوجود أو يحدث في فالدرادا الأولى من دون أن تكرّره فالداردا الثانية، لأنّ المدينة أُنشئت هكذا، بحيث تنعكس كلّ نقطة بها في مرآتها. ولا تحتوي فالدرادا التحتيّة، في الماء، على كل الزخارف المحزّزة ونتوءات الواجهات التي ترتفع فوق البحيرة فحسب، بل وعلى دواخل الغرف، بالسقوف والأرضيات، ومنظور القاعات، ومرايا خزائن الثياب.

سُكّان فالدرادا يعرفون أن كلّ فعلٍ من أفعالهم هو في ذات الوقت ذلك الفعل وصورته المرآوية التي تمتلك المنزلة الخاصّة التي للصور. ويمنعهم هذا الوعي من الاستسلام لحظة واحدة للمصادفة والنسيان. حتى حين يثني العشّاق أجسادهم العارية، الجلدَ لصق الجلد، ملتمسين الوضعية التي ستمنح أحدهم أقصى متعةٍ بالآخر، حتى حين يُغمد القتلة السكّين في عروق الرقبة السوداء، ويتدفّق المزيد من الدم المتخثّر كلّما زادوا الضغط على النصل المنزلق بين الأوتار الرابطة بين العظام والعضلات، فإن مضاجعاتهم وجرائمهم ليست هي التي تحظى بالأهمية القصوى، بقدر ما تحظى بها مضاجعاتهم وجرائمهم في الصوَر، الشفّافة والباردة في المرآة.

أحياناً تزيد المرآة قيمةَ شيءٍ من الأشياء، وأحياناً تحرمه من قيمته. ليس كلّ شيء من الأشياء التي تبدو ثمينة في الأعلى تحافظ المرآة على قوّته حين يتمرأى.

المدينتان التوأم غير متساويتين، لأن لا شيء ممّا يظهر إلى حيز الوجود أو يحدث في فالدرادا متناسقٌ: كلّ وجه وإيماءة يُجاب عليهما في المرآة بوجهٍ وإيماءة مقلوبين، نقطةً بنقطة. كلّ واحدةٍ من الفالراداتين تعيش من أجل الأخرى، عين إحداهما في عين الأخرى؛ ولكنْ لا يوجد بينهما حُبّ.


■ ■ ■


حلمَ الخان الأكبر بمدينة؛ وها هو يصفها لماركو بولو:
"الميناءُ في الظلّ يواجه الشمال. المراسي عالية فوق الماء الأسود، الذي يرتطم بالجدران الحاجزة؛ تنحدر درجاتٌ حجرية جعلتها الطحالب زلِقة. زوارقُ مطْليّة بالقار مربوطة، تنتظر الركّاب المغادرين المصفوفين في طابور لتوديع أهاليهم. تجري مراسم الوداع في صمت، ولكنْ ترافقها الدموع. الجوّ بارد؛ الحميع يغطّون رؤوسهم بِشالات. صيحة من النوتيّ تضع حدّاً للتأخير. يربض المسافرُ عند القيدوم، يتحرّك ناظراً باتّجاه الجماعة التي تخلّفت على الشاطئ؛ لم يعد ممكناً تبيُّن ملامحه من على الساحل؛ يتوقّف الزورق بجوار سفينة راسية. على السلم يصعد شكلٌ ضئيل، يتلاشى؛ يسمع صوت السلسلة الصدئة وهي تُرفَع، محتكّة ببيت القلس. الناس الذين ظلّوا على الشاطئ يطلّون من فوق الحواجز الواقية فوق صخورالرصيف الممتدّ في البحر، عيونهم تُتابع السفينة الى أن تدور حول الرأس البحري؛ وللمرة الأخيرة يلوّحون بخرَقٍ بيضاء".

يقول الخان لماركو: "انطلق، استكشف كلّ ساحل، وابحث عن هذه المدينة، ثم عُدْ وأخبرني إن كان حلمي يتطابق مع الواقع".

فيقول ماركو: "سامحني يا سيدي، لا شكّ أنني سأبحر من ذلك المرسى عاجلاً أم آجلاً، ولكنّني لن أعود لأخبرك عنه. المدينة موجودةٌ ولديها سِرٌّ بسيط: إنّها لا تعرف إلّا الارتحالات، لا العودات".


■ ■ ■


أصغى قبلاي خان، مطبقَ الشفتين على جذع الغليون الكهرمانيّ، ولحيته مسترسله فوق ياقته الأرجوانية، وأصبعا إبهاميه مقوّسان بعصبية في خفيّة الحريريين، إلى حكايات ماركو بولو من دون أن يرفع حاجباً. هذه هي الأمسيات التي كان يُثقل فيها ظِلُّ وسواسٍ على قلبه.

"مُدنكَ لا وجودَ لها، ربما لم يحدث أن وُجدت أبداً. لا ريب أنه لن يكون لها وجودٌ مرّة أخرى أبداً. لماذا تسلّي نفسكَ بخُرافات معزّية؟ أعرفُ تماماً أن إمبراطوريتي تتعفّن مثل جثة في مستنقع، يصيب مرضها الغربان التي تنقرها بالعدوى، كما يصيب أيضاً القصبَ الذي ينمو مخَصَّباً بأخلاطها. لماذا لم تحدّثني عن هذا؟ لماذا كذبتَ على إمبراطور التتار أيها الأجنبي؟".

عرف بولو أنه كان من الأفضل مجارات مزاج العاهل السوداويّ:
"نعم... الإمبراطورية مريضة، والأسوأ أنها تُحاول الاعتياد على أوجاعها. هدف استكشافاتي هو هذا: إنني بالبحث عن آثار سعادةٍ لا يزال لمْحُها ممكناً، أسبر منابعها الضئيلة. إذا أردتَ معرفة مبلغ الظلام حولك، عليك أن تجعل بصرك حديداً، أن تُنعم النظر في الأضواء الواهية في نقطة نائية".

إلّا أن الخان كانت تستولي عليه في أوقات أخرى نوباتُ شعور بالنشاط والخفّة، فينهض عن حشاياه، ويذرع السجّاد الممتد فوق الممرّات تحت قدميه بخطوات واسعة.

ويتطلّع إلى الخارج، من فوق حواجز السطيحة، ليلقى نظرة شاملة بعينٍ مبهورة على اتّساع حدائق القصر المضاءة بمصابيح مدلّاة من أشجار الأرز. وعندها يقول: "ومع ذلك فأنا أعرف أن إمبراطوريّتي مصنوعة من موادّ قوامها البلّور، تنتظم جُزيئاتها في شكلٍ مكتمل. وتتّخذ وسط تموّج العناصر ماسّةٌ رائعة وصلبة شكلاً، شكلَ جبل هائل شفّاف متعدّد الوجوه. لماذا تتوقّف انطباعات رحلاتك عند المظاهر المحبِطة ولا تلتقط أبداً هذه العملية التي لا سبيل إلى تغيير مسارها؟ تتلبّث عند كآبات عارضة؟ لماذا تُخفي عن الإمبراطور عظمة قَدره؟".

فيجيب ماركو: "بينما تَرفع المدينة النهائية والفذّة جدرانها الصامدة بإشارة منك يا سيدي، أقوم أنا بجمع رماد المدن الأخرى الممكنة التي تضمحل لتترك لها مكاناً، مدن من التي لا يمكن اعادة بنائها أو تذكُّرها أبداً. وحين تعرف أخيراً الفضْلة المتبقيّة من التعاسة التي لا يستطيع أيُّ حجر نفيس تعويضها، ستكون قادراً على احتساب عدد القيراطات الصحيح الذي يجب أن تجاهد تلك الماسة الأخيرة للوصول إليه، وإلّا فان حساباتك ستكون خاطئة منذ البداية".


* ترجمة: محمد الأسعد

المساهمون