التاريخ الحديث يتغيَّر، كما تتغيَّر أحكامُنا وتقييماتُنا له. لقد وصلنا إلى معلومات لم يكن بإمكاننا تخيُّل رؤيتها أو الوصول إليها قبل سنوات. حتى إنهم يقومون الآن بعمل أرشيف للشؤون الخارجية، وسيُسمح لغير الدبلوماسيين أيضاً بأن يطّلِعوا عليه. وهكذا، سيتم التعامل مع تاريخ تركيا الدبلوماسي بطريقة مختلفة.
تعدّ فترة الانتقال من الإمبراطورية إلى الجمهورية مشكلة كبيرة في الحياة السياسية التركية، مثل عملية التأريخ تماماً. فليس من السهل على مجتمع أن يقوم بثورة، وأن يغيَّر تقليداً عمره ألف عام. وكما هو الحال في البلدان الأخرى، كان الانتقال من الأنظمة الملكية إلى الجمهورية أمراً صادماً للغاية في بلدنا. وفوق ذلك، جلب هذا الانتقال نقاشات لا نهاية لها في مسألتي التأريخ والحياة الفكرية الاجتماعية.
بعد كل السنوات التي مرّت، تغيَّرت المصادر التي تُوجِّهنا وتجعلنا نحلِّل ونقيِّم الأحداث، وتمّ فتح أرشيفات جديدة في تركيا، ورأينا على الأقل قسماً من المجموعات التي لم نتمكّن من رؤيتها من قبل. لقد كانت الأرشيفات الصحافية محدودة للغاية، واليوم أصبح من السهل الاستفادة منها من خلال النظام الرقمي. وازدادت المصادر المحلّية بقدر المصادر الأجنبية، وخصوصاً أن مسألة فتح الأرشيف صارت نزعة عالمية. هكذا يمكننا أن نفحص الأرشيفات الجديدة للدول والتاريخ الحديث، وهو أمر ضروري لهذا العصر. حتى ضمن هذه الأرشيفات، أرشيف "الحزب الشيوعي" في الاتحاد السوفييتي، الذي غيروا اسمه إلى "أرشيف العلوم الاجتماعية". وبالطبع، يمكن أن يكون فتح الأرشيفات للقُرّاء من خلال الانتقاء منها وحجب بعضها مشكلة أيضاً.
الأتراك لا يحبّون السلطنة، فقط يحبّون بعض السلاطين
تقدِّم تركيا الخارجة من الحرب العالمية الأولى مشهداً مختلفاً تماماً بعد قرن من الزمان. يمكن أن تروا انهياراً في بعض مؤسّساتنا، إلا أن هناك قوّة كبيرة في أساس بعض المؤسّسات الأخرى، وصارت تركيا تلعب دوراً مهماً في العالم وتُنَاقَش مواقفها.
منذ القرن التاسع عشر، بدأ ظهور سجلّات تِعداد النُّفوس لدينا. ولم يعد يُستخفّ بعبارة "الديمقراطية تأتي من الصناديق"، كما أن تاريخ الديمقراطية التركية صار قديماً، وتزايد عدد المصادر التي تُغطِّي فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ بعض هذه المصادر تمّ توليفها بشكل جيد، وسوف نشير إليها في هذا الكتاب للقُرَّاء حتى يتمكنوا من تقييم المصادر الأخرى.
بدأ فتح أرشيفات تركيا في الوزارات الخارجية لدول أجنبية، بما فيها إيران. ولذلك، يجب أن يُفتح أرشيفنا أيضاً، وإذا لم يحدث ذلك، فسوف تنزلق عملية البحث في العصر الحديث إلى مجهول خطير.
يجب أن نقول بوضوح إن أيديولوجيا السَّلطنة العثمانية ليست هدفاً للمستقبل في تركيا، فالأتراك لا يحبّون السلطنة، فقط يحبّون بعض السلاطين ويفخرون بهم، لأن أيديولوجيا الجمهورية قد استقرت. لقد تحوّلت إمبراطورية الأتراك إلى جمهورية الأتراك. وفي هذا الكتاب، حاولنا كتابة التاريخ بشكل مترابط، ويجب توضيح ذلك: لقد أصبح البحث في التاريخ الاقتصادي متطوّراً بعد أن كان ناقصاً، ولكن توجد فجوات كبيرة بخصوص التاريخ الدبلوماسي.
نتناول في هذا الكتاب أسباب انهيار الدولة العثمانية، والتيارات القومية، وحرب طرابلس الغرب، وحرب البلقان، والحرب العالمية الأولى، والجمهورية التي وُلدت من رماد تلك الحرب وأسَّسها مصطفى كمال أتاتورك ورفاقُه. إلى جانب الجهود المبذولة للانتقال إلى الديمقراطية في الحياة السياسية التركية بعد عام 1945، والسنوات التي حكم فيها الحزب الديمقراطي، والمرحلة اللاحقة لذلك حتى عام 1965. كما نتناول أيضاً الشرق الأوسط وفلسطين، التي تُعدُّ من أعمق القضايا في التاريخ الحديث.
* مقدّمة المؤرّخ التركي إلبر أورطايلي لكتابه "حقائق التاريخ التركي الحديث"، الذي نقله أحمد زكريا إلى العربية ويصدر هذا العام