شوقي أبي شقرا.. كاتب إنجيل الفوضى ينزل من العربة

11 أكتوبر 2024
شوقي أبي شقرا (1934 - 2024)، تصوير: وضاح فارس
+ الخط -
اظهر الملخص
- شوقي أبي شقرا، الشاعر اللبناني الراحل، يُعتبر ظاهرة شعرية فريدة تتقاطع مع الدادائية، حيث تميز شعره بالفوضى والعبثية واللامعنى، مما يجعله عصياً على التأويل التقليدي.
- تنقل أبي شقرا بين الشعر والنثر، حيث ثار في شعره على القديم واستخدم النثر لاستعادة الذكريات واقتحام ماضيه الشخصي، مما أتاح له تجسيد الحياة بكل تفاصيلها.
- أصدر العديد من الأعمال الشعرية والنثرية، مثل "أكياس الفقراء" و"سائق الأمس ينزل من العربة"، وركز قبل رحيله على جذوره القروية والتذكر.

لا مناصَ من بدء الحديث عن الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا، الذي رحل عن عالمنا أمس، بمقاربته مع ظاهرة تُشبهه تفجّرت فجأةً في الزمن الكوني لعوامل شتّى، ومثلها فعل. أبي شقرا والدادائية شيءٌ واحد: ظاهرة انفجرت في وجه الأزمات، في وجه الزمان، في وجه اللغة، وفي وجه التعريفات المعجمية والإجرائية للأشياء كلّها.

الفارق الوحيد البسيط أنّ أبي شقرا لا يعتبر نفسه منقذاً كما فعلت الدادائية، ليس حجر دومينو أخيراً سوف يستند إليه العالم كي لا يقع، إلّا أنّه اعتمد الشكل الذي يشبهه تماماً، ويشبه انفلاته من الأشياء جميعها: تبنّي منطق الفوضى، الفوضى التي لا تتحدّد، لا تنحصر، ولا يمكن الإشارة إليها والقول: هذه هي. بل تجرف القارئ معها، وعوض أن ترفع فقط من أفق توقّعه إزاء الكلمة الثانية في القصيدة، فإنّها: تُفجّره أيضاً. إنّ كلّ تجربة "نظرية التلقي" في النقد، إنّ كان في مدرسة كونستانس أو غيرها، تُصاب بما يشبه المقتل أمام هذا المدّ الشعري القائم على الفوضى. فإذا كان التلقّي هو البحث عن قنوات تواصل، وملئاً للفراغات، وكسراً لأفق التوقّع، وإذا كان دراسةً لاستجابة القارئ، فإنّ في شعر أبي شقرا ما يطوّح بذلك كلّه، وفي الآن نفسه يبني عليه. العودة هنا إلى ابن طباطبا من ثمّ رولان بارت في "لذّة النص" هي وحدها المجدية.

إذ في عالم أبي شقرا الشعري ثمّة ضفادع وسنابل وماعز وقطارات وجدائل بصل ووردتان وبطل وبطلة وكآبة حذاؤها أحمر تُسرع مثل الفهد ومخالبها دجاج الأرض، ومطربة يضربها الزبائن في الكراسي فتبلع ريقها، وغيلان، وأقدام رخوة كاللبن، وثعالب وديوك وشعوب ورؤساء وإذاعات وفضّة وسكوت وسوط وسراج ورماد وقناديل وخرافات وفراشات وصابون وصليب وقرميد ونخلات وجزمات وبلح وطباشير وأباريق وثيران وبقدونس متثائب وشمس تغلق دكّانها وتينٌ مطبوخ ومرايا مكسورة وشحّاذ يأكل المساء مثل خيارة وقصّ أظافر وثغاء عنزة وصهيل فرس.

في الشعر ثار على القديم وانفلت منه، كان مُحطِّماً

ومع ذلك، ففي عالم أبي شقرا أيضاً:

"لا، إنسان
لا، فراشة
لا، قطّة
لا، زهرة
لا، ممحاة
تدحرجت امرأةٌ اسمها لا وانكسرت الجرّة".

من هنا يصبح ما قاله ألبير كامو عن رامبو في "الإنسان المتمرّد" منطبقاً تماماً على الرجل الآخر: "إنّه بإنتاجه، بإنتاجه فقط، كان قد أشار إلى الطريق، ولكن بالصورة الخاطفة التي تكشف بها العاصفة طرفَ الدرب".


شوقي بأكثر من صفة، يتذكّر

التغيير هو الثابت الوحيد في حياة أبي شقرا التي عاشها متنقّلاً بين الشعر بمختلف أنواعه، من ثمّ التأسيس لتجربةٍ صحافية رائدة، غير النشاط الترجمي على قلّته، والمسؤولية الثقافية. قضاها بين 14 كتاباً شعرياً وكتاب ذكريات وكتاب نثر فنّي "سائق الأمس ينزل عن العربة".

يُصرّح أبي شقرا، قبل رحيله بأشهر قليلة، بعد تسعٍ وثمانين سنة، أنّه ما يزال قروياً، وأنّه لم ينفكّ عن هذا الإطار ولم يخرج من هذه المساحة. خصّص زمنَه الأخير المتبقّي من أجل التذكّر، الذاكرة معمله الحيّ الذي لا يتوقّف عن النشاط، هي مختبره، بعد أن مزّقها طوال تجربته الشعرية. الآن يستعيدها ويستند إليها بعد حربٍ طويلة. سؤال بول ريكور هنا يصبح مشروعاً: من ماذا هناك ذكرى؟ لمن هي الذاكرة؟

تبنّى منطق الفوضى، الفوضى التي لا تتحدّد، لا تنحصر

من أجل مجلّة "شعر"، والرفاق القدامى والتجربة: "كلّ الشعراء الذين غادروا إلى الأوسع ونزلوا عن الصهوة إلى المكان الأخير. كلّهم في ذاكرتي وفي حسباني وفي أيامي". 


الشاعر يقتل والناثر يستعيد

خرج أبي شقرا من الشعر إلى النثر، لأنّ الشعرَ ليس مكاناً مناسباً للذاكرة، وهذا ما يميّز تجربته الشعرية عامّةً. في الشعر ثار أبي شقرا على القديم، انفلت منه، كان مُحطِّماً، وليس التذكّر شعراً إلّا من أجل القتل، من أجل الإنهاء وقطع الصلة المعنوية، قطع أيّة وحدة موضوعية أو صلة عقلانية؛ أمّا في النثر فإنّ الهدف كان الاستعادة.

يُعيّن باحثان في شعر أبي شقرا "السمات الدادائية في السرد الشعري لشوقي أبي شقرا" تقاطعات تجربته الشعرية مع الدادائية عامّةً، من نحو: العبثية واللامعنى - الفوضوية - اللاعقلانية - الانزياح - التناقض - نفي كلّ شيء - الريب في كل شيء - خرق الأعراف - الحرية - اللانظامية - الارتجال - إيجاد الصدمة. ويوردان عدّة أمثلة - على قلّتها - تُقارب بين مقطعه الشعري والدادائية.

لكنّ شعر أبي شقرا يبقى عصيّاً أمام الهرمينوطيقا والتأويل، أمام هرمس والمفسّرين، لأنّه يضع دائماً بناءً لأفقٍ جديد، وتغييراً للأفق.

بعد الشعر، اقتحم أبي شقرا النثر من أجل اقتحام ماضيه الشخصي، اقتحمه بالتذكّر: زمناً لم يعُد كائناً، لكنّ آثاره وشظاياه كلّها في الحاضر، وبهذا الاقتحام، بالتذكُّر، استولد أبي شقرا نثره الأخير قبل أن ينزل من العربة: "إنّه نوع من المغامرة والتقاط ربما ما لم تستطع القصيدة التقاطه. تنويعات على القصيدة وأكثر. في النثر تستطيع التقاط الفتات والتفاصيل والذرّات والتقاط الكومبارس. لأنّ الحياة تتألّف من ملك وملكة وأمير وأميرة وفارس وحبيبة والماركيز والدوقة والكونتيسة والباشا والبيك. وهنا ألملم الأشياء التي تقع خارج السلطان، وهو لا يرى كلّ الأشياء. السلطان يرى وزيره وقائد الجند والمستشار. ولكن أنا من يرى العسكر والخدم وكلّ الذين يؤلّفون الحياة الحلوة، وأردت أن أجسّدهم وألتقطهم قبل أن يضيعوا. أريد التقاط العالم الذي فلت من يدي وأنا منهمك في القصيدة".

وقبل ذلك كان قد فعل ما أراده: "يقولون بالفروسية أي الذي يقلب الآخر عن الحصان هو المنتصر. أنا قلبت الحياة عن الحصان وانتصرت عليها بهذه الطريقة".


بطاقة

صدر لأبي شقرا شعراً: "أكياس الفقراء" (1959)، "خطوات الملك" (1960)، "ماء إلى حصان العائلة" (1962)، "سنجاب يقع من البرج" (1971)، "يتبع الساحر ويكسر السنابل ركضاً" (1979)، "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة" (1983)، "لا تأخذ تاج فتى الهيكل" (1992)، "صلاة الاشتياق على سرير الوحدة" (1995)، "ثياب سهرة الواحة والعشبة" (1998)، "سائق الأمس ينزل من العربة" و"تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة" (2005)، "عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى" (2021).



* كاتب فلسطيني

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون