ما يخبّئه شجر الكستناء.. ملامح نهضة أدبية أميركية أصلية

12 أكتوبر 2022
طلي تمثال كولومبوس بالأحمر، حدائق "بلغراف سكوير" بلندن، 12تشرين الأول/ أكتوبر 2021 (Getty)
+ الخط -

سكّ الأستاذ في "جامعة كاليفورنيا" والناقد الأميركي كينيث لينكولن (1941) مصطلحَه الذي صدّرَ به عنوان كتابه "نهضة الأميركي الأصلي" عام 1983. وفيه يتحدّثُ عن عناصر إحياء التراث الشفوي المنقول أدبيّاً، والتي يمكن وصفها بـ"عصر النهضة"، وما تشكّلَ عن ذلك العصر من حالة اعتراف شهدتها الساحة الأدبية الأميركية في ستّينيات القرن الماضي وما بعدها، إزاء الموروثات الأدبية لسكّان أميركا الشمالية الأصليين الذين أبادتهم الآلة الاستيطانية منذ وصول كريستوفر كولومبوس إلى سواحل جزر الكاريبي لأوّل مرّة في مثل هذا اليوم (12 تشرين الأوّل/ أكتوبر) من عام 1492، وليتحوّلوا بعدها إلى مجرّد "هنود حُمر" يُستعَار من أشباحِهم ومن مقابرِهم الجماعية التي ما زالت تُكتَشَف في أميركا وكندا، وآخرها كان عام 2020.

تبدّى عملُ لينكولن بوصفه موجة نقدية في الأدَب والأنثربولوجيا، تأثّرت بشكل كبير بحدث أدبي ستّيني بارز، وهو فوز سكوت مُمَداي (1934) بـ"جائزة بوليتزر" (1969) عن روايته "منزل مصنوع من الفجر"، وهو أحد الكتّاب المنحدرين من شعب كيوا. لتبقى حالة الاعتراف وما يرتبط بها من أشكال أدبية، هي المفهوم النظري الأساس الذي طرحه لينكولن في مقدّمة كتابه، إذ يلفت إلى أنّ النهضة لا تعني أن هذه الآداب مُستجَدّة أو مُطوَّعة مع الرواية، ذلك الفن الحداثي والأوروبي، إنّما هي نهضة استمرارية وتكوينٌ خلّاق عن الأشكال القديمة لتراث تلك الشعوب.

انطلاقاً من سؤال النهضة الأصلية يُمكنُ الحديث عن جيل الروّاد الأصليّين إلى جانب مُمَداي، ما بين شعراء وروائيّين، أبرزهم: باولا غن ألن (1939 - 2008) التي تأثّرت بمُمَداي، مُعيدةً إحياء الحكايات الشعبية والموروث الشفوي ذي النزعة الحلولية المُتّحدة بالطبيعة، حيث يحضر الحيوان والنبات والحشرات بقوّة في أدب السكّان الأصليّين، ومن تلك الحكايات التي اعتمدتها ألن "عنكبوت الجدّة والذرة البِكر". تلك النزعة الحُلوليّة سيلتقطها محمود درويش ويعبِّئُها رمزيّاً في الذكرى الخمسمئة لاستكشاف كولومبوس للقارّة، وذلك في قصيدته "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض" (1992). يقول درويش: "هُنا كان شعبي/ هنا مات شعبي/ هنا شجر الكستَناء يُخبّئ أرواح شعبي/ سيرجعُ شعبي هواءً وضوءاً وماء". 

أبرز اشتغالات ألن الروائية كانت "المرأة التي امتلكت الظِّلال" (1984)، وهي تتركّز حول موضوعة البحث عن الجذور، ودحض العنصرية، وهذا ما تمثّل لا في نتاجِها الأدبي فقط، بل الأكاديمي أيضاً بوصفها أنثربولوجيّة في "جامعة أوريغون" ومُهتمّة بدراسة الأعراق الأميركيّة المُختلطة، بمختلف تفرُّعاتِها الأصلية والأوروبية والعربية. وفي هذا السياق جاء عملُها الموسوم بـ"استعادة الأنوثة في التقاليد الهندية الأميركية" (1986)، وقد جادَلت فيه الفهمَ الأوروبي للسكّان الأصليين على أنّه فهم استعماري وأبويّ في آنٍ، شأنُها في ذلك شأن الخطاب النسوي التقاطُعي.

تأسّست النهضة على عمل سكوت ممداي "منزل مصنوع من الفجر"

وبما أنّ شخص كولومبوس يُكثّفُ الكثير من الإحالات، وحسبُنا ما شهدته الساحات العامّة في أميركا وأوروبا من اقتلاع وتحطيم لتماثيلِه خلال الاحتجاجات التي عقبت مَقتل جورج فلويد عام 2020، فقد استوعب كولومبوس تاريخياً الرمزية الكولونيالية للمُستكشِف المُستعبِد، وكأنّ المحيط الذي عبره هو محيطٌ من دَم؛ لذا فإنّ جيل النهضة الستّينية وما بعدها كان يقظاً في استحضاره ووظّفهُ أدبياً كما فعل الروائي جيرالد فيزنور (1934) الذي كتب أجناساً أدبية مختلفة من الهايكو والقصص القصيرة، ليبقى عملُه الروائي "ورثةُ كولومبوس" (1991) أهمّ اشتغالاته، والذي تزامن نشره مع الذكرى الخمسمئة للغزو، أو "يوم كولومبوس" كما يُسمّى في الولايات الأميركية.

أمّا شعريّاً، فيبرز اسم الصحافي والشاعر موريس كيني (1929 - 2016) المنحدر من أصول مختلطة إيرلندية ومن شعب الموهوك، وقد نُشرت أعمالُه في دوريات عديدة، من بينها فصليّة "الهندي الأميركي"، و"نيويورك تايمز"، كما أنّه ترشَّح مرتين لنيل "جائزة بوليتزر". عالج كيني إشكالية رئيسة في شعره؛ ألا وهي التوحُّد مع الطبيعة في مواجهة الحداثة، فكيف يُمكن لهذه الأخيرة أن تطرقَ أبواب الشعوب الأصلية وتكسرَ عُزلتَهم وأيّ ثمن سيدفعون، وكيف شيّد أبناء تلك الشعوب المُضطهدة ناطحات السحاب في مانهاتن - أيقونة الحداثة الأصلب - فوق أكتافهم الهشّة؟ 

وبقدرِ ما تبدو هذه الفكرة كلّية بأبعادِها، وتعبّر عن مواجهة تاريخية، بيد أنّ كيني يبني الكلّي على مشهدٍ مباشر تلتقطه الأعين وهي ترقب العمّال، ذلك كونه شاعراً جوّالاً اعتنى بتمثيل الجغرافيا بوصفِها العنصر المكاني الحميم والأقرب إلى الروح كما في عمله "عجن الدّم" (1981). ويُذكّر حضور كيني في سياق النهضة الأصلية واللغة الإنكليزية بحضور موازٍ شغله الشاعر الغواتيمالي أمبرتو آكابال (1952 - 2019). وبجرعةٍ أكثر جذريّة ظلّ أكابال مُحافظاً على الكتابة بلغة المايا شعبه الأصلي، واتخذَ موقفاً بالضد من ثقافة المُستعمر الإسباني، وهذا يفتح المجال لمقارنة أشمل بين زوايا اللغتين وهيمنتهما. 

لكن، في غمرة هذه النهضة الأدبية المهمومة بمواجهة تاريخ حافل بالعنصرية والإبادة، فإنّه من المهمّ أيضاً الالتفات لتعامُل المركز الليبرالي وأكاديمياته معها، من خلال التفتيش النقدي وراء الخطابات التي تحاولُ هضم الأصوات المُعارِضة وإدخالها في المؤسسة، أو حتى الاستثمار من خلفها، لذا فإن أصوات النهضة الأصلية وما يليها لا تُقرأ بنسقية واحدة، خاصة مع الاحتفاء بخطاب "الهُويّات" الملوَّنة والمتحوِّلة.

استحضر جيلُ النهضة كولومبوس المستعمِر بتوظيف أدبي

بعد كلّ ما سبق، ماذا عن التلقّي العربي؟ إذ يبدو نصيب "النهضة الأصلية" في الترجمة العربية غير وفير، لا في المُتون ولا في الحركة النقديّة التي رافقتها، ولو أنه جرى الالتفات مؤخّراً إلى ترجمة بعض الأعمال، ومنها الأنطولوجيا التي أعدّها المُترجم السوري أسامة إسبر بعنوان: "على شواطئ النار: قصائد لشعراء من الأُمم الأصلية للولايات المتّحدة الأميركية". وقد أكّد إسبر أنّ هدفَهُ من وراء هذا العمل تضامنيّ مع شعوب هُمّشَت وأُبيدَت، لكنّها وجدت في الشعر والفنون ملاذاً لها وطريقةً لإيصالِ صوتِها. 

في حين سجّلَ "الهندي الأحمر" حضوراً رمزيّاً في الشعر العربي كما عند درويش في قصيدتِه المذكورة، أو في الرواية، كما العمل الذي أنجزه سميح مسعود بعنوان "هوشيلاجا" (2020)، وهو اسم المدينة الأصلية التي أُقيمت على أنقاضها مدينة مونتريال الكندية. وفي التفاتة لِما قبل لحظة النهضة الستينيّة، أنجز يزن الحاج ترجمته العربية للمجموعة القصصية "حكايات القيّوط" الصادرة عن "منشورات تكوين" (2020)، مُقدّماً اسم الكاتبة بلغتها الأصلية هوميشوما (1888 - 1936) ومعناه: يَمامَة الحِداد. هُنا مراجعة لما جاء في هذه المجموعة من آثار اتّحاد مع الطبيعة إحدى أبرز مُميّزات أدب الشعوب الأصليّة. 



"حكايات القيّوط": هل اكتشفنا أرض الحكاية الأولى؟

حسب الكاتب السوداني صلاح شعيب، فإنّ أسماء عالمية مثل: نجيب محفوظ وولي سوينكا وتشينو أتشيبي، قد خاضت طبعتَها الخاصة للسّعي بالاعتراف في أواخِر القرن العشرين. وكذلك صنعت هوميشوما في "حكايات القيّوط" الصادرة بالإنكليزية في ثلاثينيّات القرن العشرين، إذ سعت جاهدةً من أجلِ تحويل التراث الشفوي والذاكرة اللّامادية، إلى أثرٍ مكتوب. كما قدّمت يمامة الحِداد صوتاً أصليّاً لا يأتي من الأطراف بل من عُمق المركز، أو بالأحرى من خلفيّته التاريخية التي حاول البِيضُ طمسها مراراً.

الاتحاد مع الطبيعة أبرز ما ظلّ يميز أدب الشعوب الأصلية

لماذا القيّوط، وليس أيّ حيوان آخر؟ تتحدّث المُؤلّفة في تصديرها للمجموعة عن مركزية ذئب القيّوط في الأساطير الأُولى للسكّان الأصليين، في زمن لم يكن أيُّ بشر بعدُ قد وُجدَ على الأرض، وحدَهُ "شعبُ الحيوان" كانَ مُتسيِّداً، مع أنها ليست حيوانات في جوهرِها بقدر ما تُمثِّل طبائع بشريّة وتستبطنها رمزيّاً وسُلوكيّاً، بدءاً منَ الطمّاعِ والشرِه والمُراوغ وصولاً إلى الطيّب والمسكين والمغلوب على أمرِه، ما يُقاطعها مع أسلوبٍ معروفٍ في التراث العربي الأدبي أو ما اصطلح مدرسيّاً على تسميته بـ"المَثل الخُرافي"، وأشهر أعلامه من الأقدمين: صاحب "كليلة ودمنة" ابن المُقفّع، مع جُرعة عالية من الإيحاء السياسي، ومن المُحْدثين: جبران خليل جبران بنزوعِه الجارف صوب الغاب وعداء المدينة الزائفة، وأحمد شوقي الذي حاوله بنفَسٍ إحيائي. 

الصورة
حكايات القيوط - القسم الثقافي

علاوة على ذلك، هناكَ غايةٌ ما خلف الحكايات تكشفُ عنها تَراتُبِيّتُها، فالقِصّة الأولى "الروح الأكبر تُسمّي شعب الحيوان" تطالعنا بالكلمات المألوفة التي نعرِف، قبل أن تُتابعَ طبعتَها الخاصّة عن الخلق: "في البدءِ كان شعبُ الحيوان قبلَ أن يُوجد أي بشر، كان ذئبُ القيّوط الحيوان الأهمّ إذ قدّم، بعد تكليفِهِ من الرُّوح الأكبر، الإسهامَ الأكبرَ من بين الحيوانات الأُخرى، في جعلِ العالمِ مكاناً جديراً بالعيش". تبدو هذه الكلمات مهمومةً بالخلق وما وراءَه، بيد أنَّ قبائل ساليشان اكتفت بأعرافها القبلية بتقبّل بسيط لحقيقة أنّ العالم وُجد وإن كانَ قد خضَع لتعديلات بسبب القيّوط؛ كذلك ظهورُ البشر نقطةٌ مُتقبّلةٌ ببساطةٍ ومن دون تفسير.

عليه، يستطيع القارئ أن يكتشف بنفسه مُستوى تقبُّل الوجود، وذلك بتفحُّص العلاقة بين عناوين الحكايات المحمَّلة بأسئلة السذاجة الأُولى: "لمَ يعضُّ البعوض الكائنات؟ لم وجه المارتن مُتغضّن؟"، وأجوبتها التي تُحاك بحسٍّ فكه بعيد عن تراجيديا الخَلق وآلامه. أخيراً، ذهب الزعيم الدب الواقف إلى وصف قيمة الحكايات بقوله: "إنّ شخصية الهندي الأميركي ستترجّل إلى الأبد من خشبة الحياة، إلّا أنّ الروح خالدة".

المساهمون