أحدثت رحلة الكاتب الأميركي مارك تواين إلى الشرق التي نشرها في عام 1869م، والتي اختار لها عنوناً ساخراً "الأبرار في الغربة"، صدمة كبرى في المجتمع الأميركي، كونها أعطت صورة كاريكاتورية مناقضة لرحلات أميركيين سبقوه، معظمهم من المبشرين الإنجيليين، أمثال الدكتور روبنسون، والدكتور تومسون، وغيرهما ممن أبهروا الجمهور الأميركي المتعطش لمعرفة أوضاع الأراضي التي شهدت حياة يسوع.
والحق أن كتاب مارك تواين لا ينطبق عليه توصيف الرحلة التقليدية، بل توصيف آخر نجد جذوره في أدب العجائب والغرائب المعروف في التراث العربي-الإسلامي، وهو نوع خاص من أدب الرحلات، ولكنه لا يولي المشاهدات العادية الطبيعية أدنى اهتمام، بل يركز جلّ اهتمامه في البحث عن الغرائب والعاهات والمظاهر الشاذة، في البلدان التي يزورها الرحالة.
ولذلك؛ نجد أن مارك تواين لا يرى الأمور بعين رحالة مستكشف يسعى لنقل صورة أقرب للحقيقة عن أوضاع البلدات التي يقصدها، بل بعين أديب ساخر يجنح للمبالغة، لا يشغله سوى نقل المظاهر الغريبة الخارقة للعادة، والمقززة في أغلب الأحيان. واللافت أن سخريته لا تشمل المسلمين فقط، كما يوحي بذلك بعض الدارسين، ولا هي ناتجة عن نزعة صليبية، كما يزعم آخرون، وإنما هي نظرته الساخرة إلى المدن، بمعزل عن انتمائها الديني، فهو سخر من الإيطاليين ومدنهم ومن اليونانيين وبلادهم تماماً كما سخر من إسطنبول وبيروت ودمشق والقدس.
بدأ مارك تواين رحلته في عام 1867، حين كان صحافياً مبتدئاً يدعى صامويل لانغهورن كليمنص، وكان لا يزال مجهولاً لدى الجمهور الأميركي الذي احتفى بموهبته في القص والرواية ابتداءً من "توم سوير" إلى "هاكلبري فين". وكانت هذه الرحلة تجربته الأولى في الكتابة الساخرة حين رافق مجموعة من "جمعية الأصدقاء الدينية" المتشددة المعروفة بالاسم "كويكرز" في رحلة حجهم الطويلة إلى الأراضي المقدسة، وقد أشبعهم طوال الرحلة سخرية، وأطلق عليهم اسم الأبرار، أو الأطهار، وكان يقصد بذلك معنى السذج، ونشر مقالاته في صحف أميركية عديدة حظيت باهتمام كبير شجعه على جمعها في كتاب فيما بعد. وقد ترجم هذا الكتاب عدة ترجمات إلى العربية، وبعناوين مختلفة، وتصدى الكثيرون لانتقاده في دراسات كثيرة لم تتعاط معه ككتاب ساخر بالدرجة الأولى، بل بوصفه كتاباً عنصرياً يمثل الاستعلاء الأميركي والغربي على بلدان الشرق.
هجاء لليونان واليونانيين
لم يوفر مارك تواين أحداً من سخريته، فهجا رفاق الرحلة، وتهكم على المغاربة، والإسبان، والفرنسيين، والإيطاليين، ولكنه صب جام غضبه على اليونانيين الذين نالوا منه حصة وافرة من السخرية والتهكم.
ومما كتبه عن اليونان: "أصبح بين اليونان القديمة والحديثة بون شاسع يبين ما في تاريخها من مفارقات كبيرة. فالطفل جورج الأول (ملك اليونان) المحاط بمجموعة هزيلة من شاغلي المناصب، احتل موقع ثيميستوكلس (القائد اليوناني الشهير في القرن السادس قبل الميلاد). والأساطيل التي أذهلت العالم في عصر اليونان الذهبي، صارت الآن حفنة من مراكب الصيد الشاردة بصاري واحد، أبطال المارثون تحوّلوا قبيلة من العبيد المشردين. لم يتعد عدد سكان اليونان الحالية ثمانمائة ألف نسمة تنتشر بينهم الفاقة والبؤس، وتفشى بينهم ما يغطي أربعين مليوناً من البشر رياء وكذباً بل يفوقونهم".
وعن الفساد والبؤس الذي يضرب بجذوره عميقاً في اليونان الحديثة تحدث عن قيام "الملك الصغير أوتو" بتقليد الملكيات الكبرى عندما بنى قصراً من الرخام الأبيض كلفه خمسة ملايين دولار، مما أدى إلى جملة من الإخفاقات تمثلت في شعب مشرد من الأوغاد السذج، يعاني البطالة ثمانية شهور في العام بسبب قلة الفرص المتاحة للاقتراض، أو فقدان الممتلكات نتيجة المصادرة، فضلاً عن الخراب الضارب في تلال جرداء، وبوادٍ يفترشها العشب، وتوجه العرش اليوناني إلى استجداء الأموال لفترة ليست بالقصيرة، وعرض العرش على أحد أبناء فيكتوريا، وعلى شباب أصغر سناً من أبناء العائلة المالكة فيما بعد، ممن لا يملكون عروشاً، والمفلسين".
بين متسوّلي إيطاليا وإسطنبول
يغادر مارك تواين اليونان متجهاً إلى إسطنبول، وكما هو دأبه فقد تعامى عن ذكر جمال المدينة الأسطوري، وحدثنا عن المتسولين في أحد شوارعها الرئيسية الذين قارن بينهم وبين متسولي إيطاليا: "تكتظ الشوارع الضيقة بالمتسولين، رغم أنهم لا يحصلون على شيء، أولئك هم ذوو العاهات الغريبة، تلك التي شوهت صورهم كبشر (..) لو أردت أقزاماً للفرجة فحسب فاقصد جنوى الإيطالية، أما إن أردت شراءهم بالجملة أو المفرق فاقصد ميلانو، فهناك الكثير من الأقزام، ثمة أقزام في جميع أنحاء إيطاليا، ولكن يبدو لي أن الحصاد في ميلانو أوفر. ولو شئت رؤية نسبة جيدة من ذوي العاهات فاذهب إلى نابولي، أو ارتحل عبر الولايات التابعة لروما، أما إذا أردت رؤية مقر ومركز ذوي العاهات والمشوهين معاً فعليك بالتوجه إلى إسطنبول، فالشحاذ الذي يستطيع أن يعرض (في إيطاليا) قدماً لم يبق فيها سوى إصبع واحد مثير للفزع يغطيه ظفر مشوه؛ يعد ثروة كبيرة، ولكن عرضاً كهذا لن يلفت انتباه أحد في إسطنبول، وقد يتعرض صاحب الإصبع إلى فاقة، فمن ذا الذي يلتفت، مجرد التفاتة، إليه، وسط المصابين بتشوهات نادرة، والمحتشدين على جسور القرن الذهبي، والذين يعرضون عاهاتهم في أزقة إسطنبول، وكيف لهذا المدعي التعيس أن يواجه امرأة بثلاثة أرجل، ورجلاً عينه في خده، وكيف يصاب بالخجل في حضرة من كانت أصابعه فوق مرفقه..".
كنيسة آيا صوفيا القبيحة!
ولم تسلم كنيسة آيا صوفيا من سلاطة لسان رحالتنا الذي كتب عن هذا المعلم الفني الرائع هذه الكلمات: "آيا صوفيا كنيسة ضخمة، عمرها ثلاثة عشر أو أربعة عشر قرناً، وبها من القبح ما يظهرها أقدم من عمرها بكثير، يقال إن قبتها البارزة أجمل من قبة كاتدرائية القديس بطرس، ولكن قذارتها تفوق روعتها بكثير، تضم الكنيسة داخلها مائة وسبعين عموداً يستقل كل منها بذاته، وكلها من الرخام النادر المسروق من معابد بعلبك القديمة، وأثينا وأفسوس، وتبعث في الوقت ذاته على النفور لتشوهها.. زينت القبة كلها من الداخل بنقوش بشعة بالحروف التركية، وزخرفت بفسيفساء ذهبية، وبدت بهارجها أشبه بإعلان عن سيرك متجول.. ".
وينحو مارك تواين باللائمة في نقل صورة غير حقيقية عن هذه الكنيسة للأميركيين، على من سماهم بـ"الخبراء القادمين من أحراش نيوجرسي، ممن لا يستطيعون تحديد الفارق بين لوحات الجبصين وخراطيم المياه"، ولكنه يمتدح تربة السلطان محمود، حيث يقول إنها بدت من الداخل "من أروع ما وقعت عليه عيني من قطع معمارية مؤخراً". وكذلك امتدح بازار إسطنبول الكبير بقوله إنه "مشهد من المشاهد التي تستحق المشاهدة، تراه زاخراً بالحركة والنشاط والتجارة والحمالين والدراويش والمتسوقات التركيات من الطبقة الراقية، واليونانيين والمسلمين بثيابهم الغريبة وصورهم العجيبة".
"النصب والاحتيال"
يفرد مارك تواين (الصورة) صفحات من رحلته للحديث عن المعاملات التجارية التي تمتاز بالنصب والاحتيال، إذ يقول: "لا ينحصر سلوك الأتراك (يقصد المسيحيين السوريين على الأرجح) واليونانيين والأرمن في الذهاب إلى الكنيسة أيام الأحد بانتظام، ثم انتهاك ما جاء في الوصايا العشر بقية أيام الأسبوع، وبذلك يصبح الغش والخداع من أولويات حياتهم، فالرجل هنا يعهد بابنه إلى تاجر للعمل لديه بائعاً، لا يأتي على ذكر دماثة أخلاقه، أو استقامته وأدبه وصدقه، وانتظامه في مدرسة الأحد، بل يقول للتاجر: هذا الولد يساوي وزنه قطعاً من فئة المائة، فاعلم أنه في سبيله إلى الاحتيال على من يتعامل معه من الزبائن أياً كانوا، ولن تجد من يفوقه في الكذب (..) وسرعان ما يتعلم الوافدون الأجانب إلى إسطنبول تلك الخصلة، حيث يمارسون عادة الكذب شأنهم شأن اليونانيين الذين يطلق عليهم لقب أسوأ الآثمين". ويضيف: "يؤكد كثير من الأميركيين المقيمين في إسطنبول لفترات طويلة أن الأتراك أشخاص يمكن الوثوق بهم، ولكن قلة منهم يدعون أن اليونانيين لديهم شيء من الفضائل".
كلاب إسطنبول وأسطورة موسى البعيد
يخصص مارك تواين فقرات مطولة للحديث عن كلاب إسطنبول الضالة، التي يصفها بأنها أكثر الحيوانات إثارة للشفقة والرثاء والحزن، أما الكآبة فتعبير ثابت على وجوهها. ويرجع السبب انتشارها إلى أن الأتراك يكرهون قتل الكلاب، ويقول إن الأتراك "يكرهون بالفطرة إزهاق روح حيوان أعجم، ويشير إلى أن السلطان اقترح ذات مرة التخلص من كلاب إسطنبول، وبدأ بتنفيذ الفكرة، ولكن العامة أطلقوا ما يشبه صيحة رعب أوقفت المذبحة".
بعد ذلك يحدثنا عن مطعم ذهب إليه مع بعض أصحابه فرأوا العجائب من قذارة الطاهي، وهي مبالغات لا شك فيها، فكيف اجتمعت أربع مصادفات في جلسة واحدة، إذ ذكر أن سيخ الكباب قضم منه كلب شارد، فنزع النادل القطعة من فم الكلب وأعادها إلى الصحن! وقال إن فطيرة النقانق سقطت على الأرض فمسحها ببنطاله وقدمها لهم، وزعم أن الطاهي قلى لهم بيضاً استخدم فيه شوكة كان ينكش فيها أسنانه أمامهم، وذكر أن الطاهي عينه شوى لهم نقانق وكفتة على السيخ، ولكنه بصق بيده التي كور بها اللحم؟؟! ثم لا ينسى أن يصب جام غضبه على مؤلفي كتب الرحلات الذين خدعوا الأميركيين بتدبيج كتب لا تمت للواقع بصلة، بحسب قوله.
من طرائف هذه الرحلة العجيبة أن الدليل السياحي الذي كان يرافق مارك تواين وصحبه هو "موسى البعيد" (Far Away Moses)، وهو شخصية شهيرة عند الأميركيين، تعرفوا إليه عن طريق بعض كتب الرحلات، وكان من يهود إسطنبول، ولكن مارك تواين سخر منه بشدة، وكتب عنه ما يلي: "تركنا اثني عشر من ركاب السفينة في إسطنبول، وأبحرنا عبر البوسفور الجميل، وخضنا داخل البحر الأسود، وتركناهم بين براثن الدليل التركي الشهير "موسى البعيد" الذي يستطيع إغراءهم بشراء سفينة عثمانية محملة بالورود، والثياب التركية البديعة، وكل ما لا يمكنهم الاستفادة منه من أشياء تحمل على الغرابة".
ويشير مارك تواين إلى أن أول إشارة لموسى البعيد هذا وردت في أحد كتب موراي (Murray's Handbooks for Travellers) التي يصفها بالهابطة، وهي كتب إرشادية للسفر نشرها جون موراي في لندن ابتداءً من عام 1836م، غطت الوجهات السياحية في أوروبا وأجزاء من آسيا وشمال أفريقيا.
ويضيف رحالتنا واصفاً موسى البعيد: "كان يسعد كل يوم بحقيقة أنه شخصية معترف بشهرتها. لم نستطع رغم ذلك أن نبدل عاداتنا القديمة لإرضاء نزعات الأدلاء الغريبة، ولا يمكننا إظهار محاباتهم بعد أن تعودنا عليهم. لقد لقبناه بفيرجسون (والمقصود صموئيل فيرجسون أحد جنرالات الحرب الأهلية الأميركية)، وتجاهلنا لقبه المدوي وصيته الذي يزهو به، وذلك ما كنا نفعله مع من سبقه من الأدلاء، وقد أصابه ذلك بغضب دفين أغلب الوقت، رغم أننا لم نكن نقصد به إساءة".
ويتابع مارك تواين سخريته: "بعد أن تأنق، من دون أن يلتفت إلى ثمن ذلك التأنق، ببنطال فضفاض ينم عن ذوق سقيم، وخف مخرم أصفر اللون، وطربوش أحمر قان، وسترة حريرية زرقاء، وحزام ضخم من الطراز الفارسي الغريب، لف به خصره، وملأه بترسانة من المسدسات المطعمة بالفضة يستخدمها رعاة البقر، وتمنطق بسيف رهيب معقوف ي حد مرهف، اعتبر لقب فيرجسون إهانة لا تغتفر، وأسقط في أيدينا لأننا أطلقنا الاسم فيرجسون على من سبقه لدينا من الأدلاء، والسبب أننا لا نستطيع التعاطي مع أسمائهم الأصلية".
ولكن هذه الأسطر الساخرة التي وصف بها "موسى البعيد"، والرسم الذي وضعه في كتابه لهذا الدليل السياحي، أحدثا موجة عارمة من الاهتمام في الولايات المتحدة، فرحلات موراي ذكرت اسم هذا الدليل السياحي اليهودي بشكل عرضي، بينما قام مارك تواين بوصفه ونشر صورته، وهو ما دعا مزيداً من الفضوليين للبحث عنه والتقاط مزيد من الصور له، وتضمين بعض الرحالة مقاطع عن لقائهم بهم.
ووصل الاهتمام الشعبي الأميركي بـ"موسى البعيد" هذا إلى تسمية محلات تجارية باسمه في بعض المدن الأميركية، مرفقة بصورته التي نشرها تواين، ودعوته في عام 1893 إلى معرض شيكاغو ضمن الجناح العثماني، حيث التقطت له عشرات الصور، وتم نحت تمثال له كممثل للعرق السامي، ضمن مجموعة من تماثيل شخصيات تمثل الأعراق البشرية العديدة التي زينت أحد جدران مكتبة الكونغرس الأميركي.
إلى الأراضي المقدسة
بعد إسطنبول يتوجه مارك تواين وبعض رفاقه إلى مدينة سيباستيبول الروسية التي لا يوفرها من الهجاء والسخرية، وينتقل بعد ذلك إلى أزمير وأفسوس قبل أن يصل إلى بيروت. وفي ذلك يقول: "كل الذين التقيناهم قبل الرحلة وسألناهم؛ قالوا لنا الكثير حول صعوبة العثور على مترجمين وحيوانات نقل تكفي لأقل من نصف مجموعتنا. ولذا، انطلاقاً من إسطنبول كان كل واحد منا قد راح يبرق إلى القنصليتين الأميركيتين في بيروت والإسكندرية معلماً إياهما بحاجتنا إلى المرافقين ووسائل النقل. وقد دب فينا اليأس حقا، بحيث كنا على استعداد للقبول بكل ما قد يعرض علينا، جياداً أو حميراً أو زرافات أو كنغارو لا فرق. ومن أزمير كنا قد أبرقنا أيضا للغاية نفسها. وإذ خشينا أن يصيبنا الأسوأ، أبرقنا حاجزين عدداً كبيراً جداً من المقاعد في حافلات دمشق، وعدداً كبيراً من الأحصنة تمكننا من الوصول إلى آثار بعلبك، وسرت الشائعات في المنطقة الممتدة من سورية إلى مصر بأن كل سكان مقاطعة أميركا آتون إلى الديار المقدسة (ويبدو أن الأتراك كانوا يعتقدون أن أميركا مجرد مقاطعة صغيرة ضائعة في مكان ما من هذا العالم). وهكذا حين وصلنا إلى بيروت وجدنا المدينة مزدحمة بأعداد كبيرة من المرافقين والمترجمين مع عتادهم".
ومن هنا تبدأ زيارة الأراضي المقدسة التي تعني بمعناها العام جميع بلاد الشام. وهو حديث نرجئه إلى مناسبة أخرى.