مآل الترجمة

22 يوليو 2024
الجيلالي الغرباوي/ المغرب
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تأثير العلوم التجريبية على الدراسات الإنسانية**: اعتمدت الدراسات الإنسانية على مناهج إحصائية وأدوات علمية، مما أدى إلى استخدام التحليل الإحصائي في النقد الأدبي لتتبع تردد الكلمات ودراسة التغييرات في النصوص.

- **دور مختبرات الترجمة في الجامعات**: مختبرات الترجمة تعتمد على تجربة انغماس لغوي وثقافي، وتساهم في تحسين جودة الترجمة المتخصصة في مجالات مثل القانونية والطبية والاقتصادية.

- **تأثير الذكاء الاصطناعي على الترجمة**: رغم تطور الذكاء الاصطناعي في الترجمات المتخصصة، إلا أن الترجمة الأدبية تظل بحاجة إلى المترجم البشري لإعادة خلق النص بروح وإحساس خاص.

اقتفت الدراسات الأكاديمية في العلوم الإنسانية، منذ مدّة، الخُطى والمناهج التي اتّبعتها العلوم الحقّة والتجريبية، إعجاباً بإنجازاتها، وسعياً منها إلى الاتّصاف بالعلمية على غرارها، ورغبةً في إقناع قارئها بأنّ خطابها البحثي لا يقلّ صرامة علمية عن العلوم التجريبية على الأقلّ، فظهرت فيها خطوات منهجية، ومناهج إحصائية، وروائز، وجداول، وغيرها.

هكذا، ظهرت في الجامعات مختبرات في مختلف المعارف الإنسانية، من سوسيولوجيا وأنثربولوجيا وجغرافيا وسواها، وكانت اللسانيات، وما تفرّع عنها من تخصّصات، رائدةً في هذا المجال، بعدما اعتمدت في أبحاثها بعض الآلات، كما هي الحال في علم الصواتة مثلاً، لتنتقل عبرها عدوى النزوع العلمي إلى النقد الأدبي، في مباحث كثيرة، وكان التوجّهُ الإحصائي الأوضح بروزاً فيها، لكثرة اعتماده على تعقّب تردّد كلمات بعينها في ديوان أو رواية، أو للوقوف على التغييرات في النصوص من منظور علمَي العروض والقافية، كما هي الحال في دراسة دواوين أو قصائد، بغاية تبيُّن نوعية البحور والأوزان والقوافي المعتمدة، مثلاً، وفي محاولة لإظهار إمكان إدخال التجربة النصّية حيّز المختبرات، حيث تُفصل الذات العارفة عن موضوع المعرفة اقتداءً بالعلوم التجريبية.

وواضحٌ أنّ اللغة هي المشترك بين الأدب والترجمة، وأنّ كليهما يشتغل بها بصفتها مادّة أُولى، وأنّها هي التي تسوغ انتماء هذا النشاط الذي يُعيد كتابة النصوص في غير لغتها الأصلية إلى حقل أدبي أجنبي، ولتُدخلها فضاءً ثقافياً آخر؛ لذلك ليس عجباً أن يدور الحديث عن مختبرات الترجمة في مواقع أكاديمية، وأن تكون موضوع مدارسة في ما أصبح يُعرف بمختبرات الترجمة.

ينظر كثيرون إلى الذكاء الاصطناعي بصفته تهديداً قد يُفضي إلى الاستغناء عن المترجِم

ويتوهّم من يتصوّر العملية الترجمية نشاطاً آلياً يقتصر على التمكّن من معجم اللغتَين: المنقول منها والمنقول إليها، إضافةً إلى ضبط القواعد النحوية واللغوية، حتى ينجح في مهمّته. ويتهيّأ لي أنّ من يعتقد ذلك ينسى أنّ النشاط الترجمي عملية معقّدة، وأنّه، قبل تشكُّله مختبراً مؤلّفاً من أساتذة باحثين ومبدعين - يُنظّمون ندوات وينشرون كتباً ومقالات في مجلّات ويُقدّمون محاضرات - يصدر عن مشروع مميّز الملامح وذي أهداف منشودة، يكون مختبراً ذهنياً يعتمل في رأس المترجم، وتؤطّره رؤية ثقافية تستند، لا محالة، إلى تجربة انغماس لغوي وثقافي سابق في اللغة والثقافة المنقول منهما، ممّا يُيسّر نقلهما إلى لغة وثقافة أجنبيّتَين، في لغة مبيّنة جيّدة السبك، منسجمة الصياغة، وتجلي للمتلقّي في لغة الوصول ما فهمه المترجم من قراءته للنصّ في لغة الانطلاق، تحقيقاً للتواصل عبر الفهم والإفهام.

وتتعدّد أشكال تحقُّق عمل مختبرات الترجمة في المؤسّسات الجامعية، فيتّخذ شكلَ قاعات للدرس مجهّزة بحواسيب تحوي برامج للترسطة (أي الترجمة السطرية subtitling)، وأُخرى تتوافر على أجهزة الدبلجة وبرامجها، وأُخرى تضمّ برامج مثل ترادوس Trados تضمن ترجمات عالية الجودة، توظَّف فيها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، إلخ، فيستفيد الدرس الجامعي منها كثيراً، خصوصاً في الترجمة المتخصّصة، كالقانونية، والطبّية، والرياضية، والاقتصادية، وسواها.

ولا يخفى أنّ التحوُّل الرهيب الذي عرفته تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في العقد الأخير، بما زوّدت به المعارف والمهن، وما أفادت به أشكال التفكير والعمل، لم تُفلت الترجمة منه، بل إنّ الخوف تملّك كثيراً من المشتغلين بالأخيرة، لأنّهم نظروا إلى الذكاء الاصطناعي بصفته تهديداً لها، قد يُفضي إلى الاستغناء عنها.

والواقع أنّ الذكاء الاصطناعي - في شقّه المتعلّق بالترجمة - ذو أداء جيّد، بدليل اعتماد كثيرين عليه، في معظم الترجمات المتخصّصة ذات اللغة العلمية الاصطلاحية، التي لها قاموسها وتعبيراتها المصوغة ومسكوكاتها المتداولة. وقد حدا إيمان بعضهم بالمردود البيّن للذكاء الاصطناعي، وبالتقدّم المتواصل فيه، إلى القول بإمكان تحسينه، ليعتمد في الترجمة الأدبية، فيُستغنى بذلك عن المترجم الأدبي.

ويبدو لي هذا الاحتمال مستبعَداً، لذلك أتحفّظ عليه، لأنّي أنظر إلى النصّ الأدبي بصفته كائناً ثقافياً ذا روح، مثلما يراه غادامير، وأنّ الآلة يستعصي عليها نقل هذه الروح إلى كائن ثقافي آخر، بينما يتيسّر ذلك للمترجم، الذي تكون له حساسيته الخاصّة في التعامل مع هذه اللغة بإيقاعاتها وصورها وتراكيبها، وهو ينفث تلك الروح في النصوص التي يعيد خلقها، والأجمل أنّه قد يُنتج في كلّ مرّة يعود فيها إلى النصّ نفسِه نصّاً مختلفاً عن الترجمة الأُولى أو السابقة، بينما يُقدّم الذكاء الاصطناعي النصَّ نفسه كلّما التُجئ إليه، ممّا يشعر القارئ ببرودته، بخلاف النصّ الذي يترجمه الإنسان، بما يمتلكه من رهافة إحساس، وروح، وذكاء، لا تجتمع في الذكاء الاصطناعي.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون