قليلةٌ هي روايات أميركا اللاتينية التي دخلت التاريخ، لا سيّما في القرن العشرين. واحدةٌ من هذه الروايات، من دون شك، هي "لعبة الحجلة" للروائي الأرجنتيني خوليو كورتازر (1914 - 1984). شكّلت الرواية، التي طُبعت للمرّة الأولى في بوينس آيرس، في الثامن والعشرين من حزيران/ يونيو 1963، حجرَ أساس ما عُرف لاحقاً باسم "البوم" أو "الطفرة الأدبية" في أميركا اللاتينية؛ تلك الظاهرة الأدبية التي انتشرت في القارّة، لا سيّما في ستّينات وسبعينات القرن المنصرم، وتجسّدت بشكل خاص في الرواية.
لمناسبة مرور ستّين عاماً على نشر الرواية، نظّمت "المكتبة الوطنية" في بونيس آيرس، يوم الإثنين الماضي، ندوةً بعنوان "كيف نقرأ خوليو كورتازر بعد ستّين عاماً؟"، شاركت فيها مجموعة من الباحثين والكتّاب الذين تناولوا سيرة الكاتب الأرجنتيني، إضافة إلى روايته الأبرز "لعبة الحجلة".
واعتبر المشاركون في الندوة، وهُم الكاتب خوان خوسيه بيسيرا، والمؤرّخ سيرخيو بوجول، والكاتبة سيلفيا هوبينهاين، أنّ الرواية تشكّل العمل الأبرز في مسيرة الكاتب الأرجنتيني: "إنّه كتابٌ يحتوي على مرآته الخاصّة، ونقطة انطلاقته التي تبدأ من عند القارئ نفسه، حيث يجري تحفيزه من الصفحات الأُولى على تفسير شخصيّ للحبكة – اللعبة الموجودة في الرواية، إضافة إلى المنعطفات، والصدمات، وومضات البرق المفاجئة التي تتطلّب حضوراً كاملاً من قبل القارئ".
روايةٌ بالإمكان قراءة فصولها وفقاً للترتيب الذي يريده القارئ
واقترح الكتّاب المشاركون في الندوة، التي أدارتها الكاتبة غابرييلا كوماتي، المختصّة في أعمال كورتازر، عدّة طرائق للقارئ كي يقرأ الرواية المُؤلَّفة من 155 فصلاً: الأولى، هي الطريقة العادية، أي القراءة بالتسلّسل من البداية حتى النهاية؛ والثانية، هي الطريقة "التقليدية" التي اقترحها كاتب العمل نفسه، وتقوم على قراءة الرواية من الفصل الأول حتى السادس والخمسين، ثم تجاهُل بقية الفصول. أمّا الطريقة الثالثة، فهي وفقاً للترتيب الذي يريده القارئ نفسه. وكان الكاتب الأرجنتيني قد اكتشف هذه الطريقة بعد كتابة روايته "62 طريقة للقراءة"، التي ألّفها استناداً إلى فكرة موجودة في الفصل الثاني والستّين من "لعبة الحجلة".
أمّا الطريقة الرابعة، فهي أيضاً تبعاً للتسلّسل الذي وضعه كورتازر في الصفحات الأُولى من الرواية، والتي جاءت تحت مسمّى "إرشادات"؛ حيث يشرح فيها للقارئ بعض الطرق لقراءة هذه الرواية، إذ يقترح فصولاً مختلفة، مُفسِحاً المجال أمام القارئ لتخطّي بعض الفصول، والتناوب عليها. ونتيجةُ ذلك هي أنّ القارئ الذي يتبع هذا الترتيب في القراءة، سينتبه إلى وجود نصوص لمؤلّفين آخرين في مجالات مختلفة، وهذا كلُّه يشكلّ جزءاً من الرواية، ويُعطي للقارئ انطباعاً أنّه أمام عملٍ فسيفسائي، تفادياً للكلمة التي كان يكرهها الكاتب الأرجنتيني وهي "الكولاج".
وينتهي المشاركون في الندوة إلى أنّ هذه الطرائق المختلفة لقراءة "لعبة الحجلة"، تضع ذاتية القارئ على المحك، لا سيّما إذا أخذنا بالحسبان النهايات المتعدّدة التي يُمكن أن توحي بها الرواية. وربّما هذا ما دفع كورتازر نفسه إلى أن يطلق على روايته صفة "ضد الرواية أو عكس الرواية"، بوصفها قفزة في الفراغ الذي أبعده عن الأمان الموجود في الروايات الخيالية التي كانت دارجةً في أميركا اللاتينية آنذاك. إنها، كما وصفها كاتبها نفسه "رواية بحثٍ، وليس ثمّة شيء نعثر عليه. إنّها رواية أسئلة، وليس ثمّة أجوبة".