أن تجتمع بعضٌ من أبرز الأسماء العالمية في تاريخ الفن على صفحات كتاب جماعي مخصص لفنان عربي ليس بالحدث العادي. لكن كمال بُلّاطه لم يكن فناناً عادياً. منذ ولادته في القدس عام 1942، عاش الفنان في العاصمة ومن ثم درس الفن التشكيلي في روما وواشنطن وخاض مسيرة حافلة في منافٍ متعددة في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا قبل أن يختطفه الموت عام 2019 من برلين عن عمر الـ 77، تاركاً وراءه إرثاً من الأعمال الفنية والكتابات النظرية والنقدية قلّ مثيلها في الوطن العربي.
الكتاب الحالي صدر بالإنكليزية عام 2020 - إبان الفترة الأولى من الوباء الذي حجب عنه الانتباه بدرجة ما ولا سيما عربياً - عن "دار هيرمر" الألمانية المختصة بالكتب الفنية، تحت عنوان Uninterrupted Fugue. Art by Kamal Boullata من تحرير وتقديم مؤرخة الفن التركية بورجو دوراماجي Burcu Doğramacı أستاذة تاريخ الفن الحديث والمعاصر في جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونخ.
يتضمن الكتاب مجموعة نصوص تحليلية جديدة بأقلام مهمة في الوسط الفني مثل الألماني هانس بيلتينغ، أحد أشهر مؤرخي الفن الأوروبيين الحاليين، وعمر خُليف، الفنان والمنسق الفني المصري العالمي، إضافة إلى صور بدقة عالية لأعمال الفنان تتخلّل تلك النصوص. والجدير بالذكر أن مشروع الكتاب هذا كان قد انطلق أثناء حياة بُلّاطه، بل وقد قام الفنان حتى بالإشراف على تصميم صفحاته دون أن تتسنى له فرصة رؤيته منشوراً.
يختار كل باحث دربه ومُحاججاته حول تأويل أعمال بُلّاطه
أُخذ عنوان الكتاب، "اللحن اللامنقطع" ( بالإنكليزية "الفيوغ اللامنقطع" Uninterrupted Fugue)، من عنوان إحدى المقالات المتضمّنة بقلم الناقد الفني الفرنسي جيرار كسوريغيرا. المصطلح يشير إلى قالب الفيوغ الموسيقي القائم على لحن بسيط ما يغنيه صوت ما، ثم يدخل عليه صوت ثان بذات اللحن بينما يكمل الصوت الأول، ومن ثم صوت ثالث ورابع، وهكذا بحيث يتراكب اللحن على ذاته لخلق تكوينات معقدة، تماماً مثل فن بُلّاطه القائم غالباً على عنصر بسيط (مربع أو شريط أو كلمة) يتكرر وفق نظام محكم ليخلق تراكبات بديعة ومعقدة.
تعود عادة تشبيه الفن التجريدي بالموسيقى إلى أوائل القرن العشرين على الأقل، إلى كتابات الفنانين الحداثيين الغربيين فاسيلي كاندينسكي وپول كلي ممن طمحوا إلى الابتعاد عن تصوير الحياة اليومية في لوحاتهم وتجريدها عن الواقع بحيث تقارب قدر الإمكان نقاء الموسيقى: مجرّد ألوان وأشكال وكثافات وتكوينات لا تقلّد أي مشهد معروف بقدر ما تتبع، مثل الفيوغ، قوانينها الرياضية والتعبيرية الخاصة.
محاولة لـ"توطين" فنّه في الشرق أو في الغرب أو بينهما
ليس من الصدفة أن يقرّر الناقد الفرنسي إحياء تلك العادة في وصف فن بُلّاطه، فالفنان الفلسطيني قد كان فناناً تجريدياً حداثياً بالكامل، ورث أسلوبه عن تلك الحركة الفنية وعن أعلامها المبكرين منهم (كاندنسكي وكلي والبنيويين الروس) والمتأخرين (يوزيف وآني ألبيرس ومدرسة واشنطن اللونية التي ورث بُلّاطه قوانينها أثناء دراسته في المدينة، لتقارب بعض لوحاته لوحات أعلامها، كينيث نولاد وهوارد مهرينغ، مثلاً). عملية تشرّب لوحات بُلّاطه للفن التجريدي الغربي في وقت كان فيه ذلك الفن يعيش أيامه الأخيرة هي ظاهرة شاركه فيها – على اختلاف تجاربهم - بعض معاصريه العرب في أميركا مثل إيتل عدنان وصليبا الدويهي الذين استمروا برفع راية التجريد الهندسي بعد أن انقضت أيامه في الغرب.
لكن الإرث الآخر لفن بُلّاطه لا يقل أهمية عن الإرث الحداثي الغربي، كما يُظهر الكتاب: أيقونات بيزنطية كان قد رآها في طفولته وتعلّم مبادئها في القدس على يد أُستاذه الرسّام خليل الحلبي، زخارف هندسية إسلامية وكتابات عربية وفسيفساءات شامية مذهّبة تبعثر الضوء في الفضاء مثل موشور كان قد تأملها في قبّة الصخرة. تستعير لوحات بُلّاطه تلك العناصر بطريقتها الخاصة، وكأنه يأخذ تفصيلاً بسيطاً كل مرّة، لمعة ضوء أو طرف زخرف ما، ليجعل منه غرض تأمُّلٍ، وما التجريدُ إلا ذلك: اصطفاء عنصر وتعريته، تبسيطه وفرده على مساحات واسعة بحيث يفقد ارتباطاته الأصلية ويصير الغرق فيه أمراً حتمياً.
قد تكون تلك إذاً جدلية الكتاب الأساسية: محاولة "توطين" فن بُلّاطه في الشرق أو في الغرب، أو في مكان ما بينهما. تحاول الباحثة إليزابيث كي فودين في ورقتها البحثية حلّ الجدلية تلك بتوطين فن بُلّاطه في أُصوله الأرثودوكسية التي تربط بين تقاليد جمالية عربية ومشرقية وأُخرى تمتدّ خارج المنطقة نحو اليونان وحتى روسيا، موطن كاندينسكي وغيره من التجريديين الأوائل الذين يتشارك معهم بُلّاطه الكثير.
لكن الباحثة لا تكتفي بذلك الحصر، بل ترى في مدينة القدس بأكملها "النقطة المولّدة" لأعمال الفنان: "كانت المدينة القديمة بكاملها مختبراً هندسياً" امتزج فيه البيزنطي بالإسلامي بالصليبي: "بدأ كل من بُلّاطه وكاندينسكي بالرسم من عمر صغير، وتعلّق كلاهما بقوّة باللون، وكانا على وعي بالسّكن في مدن مليئة بالمساحات المقدّسة".
المقاربة مثيرة للاهتمام، وإن كان يؤخذ عليها (وعلى الكتاب عموماً) عودتها إلى مواضٍ سحيقة على حساب القرن العشرين وعلى حساب ضرورة توطين فن بُلّاطه، قبل كل شيء، في سياق جيل من الفنانين العرب الحداثيين المذكورين أعلاه وغيرهم من أمثال فاتح المدرس أو سلوى روضة شقير، فنانين تُظهر لوحاتهم، بدرجات متفاوتة، ذات المحاولات لمزج التجريد الغربي بالتقاليد العربية والبيزنطية.
يعود الكتاب أيضاً إلى سؤال مركزي في أعمال الفنان، ألا وهو تلاشي العناصر اللغوية والبصرية المستوحاة في لوحاته لتصير تكوينات جمالية مستقلة عن دورها الأصلي. في لوحته"تحية إلى العَلَم" (1990)، مثلاً، يستعير بُلّاطه ألوان العلم الفلسطيني ويعيد ترتيبها في تكوينات هندسية صغيرة متكرّرة يصعب على المُشاهد أن يحزر أصلها، وهو تماماً ما يفعله في لوحات مثل "ألف لام ميم" (2009)، التي تجعل من الحروف القرآنية الثلاثة سطوحاً رخامية داكنة تكاد تكون غير مقروءة، أو في لوحاته "في البدء كان الكلمة" (1983) و"وفي أنفسكم أفلا تبصرون" (1978)، جملٌ قرآنية وإنجيلية لا يستعيرها بُلّاطه لقدسيتها بقدر ما لطرحها تساؤلات جمالية عن "الكلمة" و"البصر"، وهما أساسا الفن عموماً وفن بُلّاطه خصوصاً.
تجعل علاقة الفنان تلك الجمالية البحتة مع التراث والنص العربي (الديني بالأخص) من تحليل لوحاته عملاً عصيباً، فلا هي علاقة الخطاط المُسلم أو المسيحي التقليدي بنصوص إيمانه التي تشبه نوعاً من العبادة، ولا هي علاقة الفنان ما بعد الحداثي (كما يصفه عمر خُليف في الكتاب) المشكّكة بكل شيء، والطامحة إلى الخروج من التأمل لتفعيل قدرات المشاهد النقدية والساخرة.
يختلف الباحثون المشاركون في الكتاب حول تأويل أعمال بُلّاطه ويختار كل منهم دربه ومحاججاته، يحاول بعضهم المرور بنظريات ابن الهيثم البصرية، وبعضهم الآخر بكتابات كاندينسكي، لكن الواضح هو أن الحديث عن الفنان "هو مهمة شبه مستحيلة، فهو متعدد الأصوات والمهارات: كاتب، رسام/ فيلسوف، ومعلم"، كما يصفه خليف. قد تكمن أهمية الكتاب هذا في جُرأته على خوض تلك المحاولة شبه المستحيلة وفي طموحه لتعريف فن كمال بُلّاطه وإعطائه مكانته التي يستحقها، وهو يأتي بذلك مثل بورتريه مؤثرة وضرورية لفنان كوزموبوليتاني عابر للحدود والأزمان والثقافات.
* مؤرّخ فن من سورية