فوزي محفوظ.. بين الفاطميين والزيريين والنورمان

22 فبراير 2021
(منحوتة في مدينة المهندية بتونس تقترض أنها لملكٍ نورماندي)
+ الخط -

عاد أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية فوزي محفوظ في محاضرته التي ألقاها منذ أيام في "المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون/ بيت الحكمة"، في قرطاج بالقرب من تونس العاصمة، إلى وثيقة  اعتبرها مجهولة لدى مؤرّخين مهتمين بتاريخ الغرب الإسلامي في العصرين الفاطمي والزيري، وردت في موسوعة "صبح الأعشى في صناعة الإنشاء" للقلقشندي، وتتطرّق إلى العلاقات المصرية الصقلية وتاريخ إفريقيّة في العصر الزيري، وتتجلى راهنيتها في تناولها مواطن التداخل بين ما ورد فيها حول الحياة السياسيّة وشؤون العلاقات الدوليّة في القرن الثاني عشر الميلادي وبين ما هو سائد اليوم.

وأشار في محاضرة "في العلاقة بين مصر الفاطمية وصقلية النّورماندية وإفريقية الزيرية" انشغاله على التاريخ المجهري من خلال دراسته للآثار، حيث لفَته التشابه الكبير بين منحوتة في مدينة المهدية التي أسسها الفاطميون بتونس اكتشفت عام 1923، وبين رسْم موجود بقصر روجر في باليرمو، فملامح الشخص في كلا العمليْن تبدو متماثلة، ووضع فرضيته الأساسية أنها لملك من ملوك النورمان حيث يضع تاجاً على رأسه وليس عمامةً.

عاد المحاضِر إلى وثيقة  وردت في "صبح الأعشى"، توضّح العلاقات المصرية الصقلية في العصر الزيري

كما تتطرّق إلى نحت غائر يوجد في جامع مدينة صفاقس ويحتوي قوسين متقابلين وكتابة إغريقية لكنه وُضع في مسجد بناه الفاطميون أيضاً، وربما يكون قد أتى مع النورمان عند احتلالهم المدينة ومكوثهم فيها أكثر من ستّة عقود، وقد نشر محفوظ مقالين حول الموضوعين.

ثم انتقل للحديث عن الوثيقة الاصلية التي أوردها القلقشندي في "صبح الأعشى"، باعتبارها نموذجاً للآداب السلطانية، وتضيء العلاقات بين الفاطميين والنورمان والزيريين، وتحتوي رسالة من خمس أو ستّ صفحات من الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله إلى روجر الثاني ملك صقلية مؤرخة في عام 531 هـ/ 1137 م، تزامناً مع إقالة الوزير الأرمني بهرام في الدولة الفاطمية، وحبسه في مصر، حيث تدخل روجر الثاني لنجدته، فأتت هذه الرسالة رداً أرسله الأخير للحافظ لدين الله.

اهتمّ محفوظ بمسألتين تتضمّنهما الرسالة، الأولى تتعلّق بموقف الخلافة الفاطمية من احتلال جزيرة جربة، والثانية تتصل برأي الخليفة من أمير الأمراء النورماندي، حيث ساند الفاطميون النورمان في احتلالهم جربة سنة 529 هـ بموقف صريح يدين سلوك أهل الجزيرة ويحمّلهم المسؤولية وييصفهم بأنهم يمارسون العدوان ويعدلون عن طريق الخير ويشجعون على الطغيان، وينحاز إلى النورمان لكنه ينصح بعدم التعرَض للناس في جربة الذين لم يبادروا بالاعتداء.

ساند الفاطميون النورمان في احتلالهم جربة سنة 529 هـ بموقف صريح ضدّ الزيريين

ورأى المحاضِر أن العلافات المصرية الصقلية كانت وطيدة، حيث يخاطب الخليفة روجر بالقول "يوجب لك ما لا يوجب لغيرك من ملوك النصرانية"، وكان الفاطميون ينظرون بعين الرضا إلى معاملة النورمان للمسلمين الذين بقوا تحت سيطرته في صقلية واتسم بالتسامح، ولم ينسوا رغم مرور الزمن القطيعة التي حدث مع شمال أفريقيا وانفصاله عنهم، مقابل سعي النورمان في احتلالهم لجربة إلى إنهاء أعمال القرصنة وتسهّل لهم السيطرة على البحر المتوسط وجعله بحيرة نورمانية مهما كان موقف الخلافة الفاطمية حيال ذلك.

وأوضح أن السياسة بين القاهرة وباليرمو قامت على التحالف لعوامل عدّة، منها تقاسم الأدوار في غرب البحر المتوسط، وضعف الدولة الزيرية لم يشجع في إيجاد موقف مساند لها، لكن الأمور ستنقلب بعد ذلك حيث لم يعد النورمان مضطرين لاستمرار التحالف مع تعدّيه المتزايد على السفن الفاطمية وفرضه القوة في البحر الأبيض وشمال أفريقيا، وصولاً إلى القطيعة بينهما سنة 536 هـ.

وهنا، قارن محفوظ بين موقف الخلافة الفاطمية للغرب ممثلاُ بالنورمان في الأمس، وبين مساندة البلدان العربية والإسلامية للغرب ضدّ بعضها بعضاً اليوم، كما حدث في محطات عديدة منها الحرب على العراق.

وتناول أيضاً مدح الخليفة الفاطمي لأمير أمراء النورمان جرجي الذي حظي بألقاب تشريفية عديدة من قبل الفاطميين، كما يرد في كتب العديد من مؤرخي تلك الفترة حيث رسموا له صورة إيجابية أثناء احتلاله مدينة المهدية في تونس، في سياق مديح أكبر وأكثر تفخيماً لروجر الثاني، مشيراً إلى ورود ذكْر جرجي في التراجم العربية الإسلامية، كما في كتب التيجاني والصفدي وابن خلدون والمقريزي، وكان جرجي (جورج الأنطاكي) يعمل لدى تميم بن المعز الزيري، قبل أن يختلف مع ابنه يحيي ويغادر سرّاً إلى صقلية حيث أصبح من أبرز قادتها.

ويختم محفوظ بالإشارة إلى انفتاح المجتمع في شمال أفريقيا خلال تلك المرحلة، حيث كان هناك تأثير كبير للموالي في بلاط الحكم لدى الفاطميين والزيريين، وكان خضورهم نوعياً لمعرفتهم بشرون الاقتصاد واتقانهم لغات جديدة.

يُذكر أن فوزي محفوظ عمل أستاذاً للتاريخ والحضارة الإسلامية بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، وهو مختص في "تاريخ التمدّن"، كما عيّن مديراً للمعهد الوطني للتراث في تونس العاصمة، وله عدة كتب ودراسات منها "المبتدأ في الآثار" (1996، و"عمارة الخلفاء" (2013) و"أساطير قرطاجنّة" (2015).
 

المساهمون