تلفت لُغة الباحثة الألمانية هِلغى باومغارتن (1947) ونبرتها القارئ العربي، فهي تُغرّد خارج مألوف ما يصدر عن العالَم الناطق بالألمانية حيال نضال الشعب الفلسطيني. تتحدّث المُحاضِرة التي عملت لأكثر من ربع قرن أستاذة للعلوم السياسية في "جامعة بيرزيت"، في كتابها "لا سلام لفلسطين: الحرب الطويلة ضدّ غزّة"، الصادرة ترجمتُه في كانون الأول/ ديسمبر 2023، عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بتوقيع محمد أبو زيد، عن "طمس منهجي" تقوم به ألمانيا والنمسا للسردية الحقيقية التي تجرى على أرض فلسطين؛ وعن تبجّح دائم بمحاربة "عِداء الساميّة" في الوقت الذي يتمّ فيه "تطوير شكل من أشكال العنصرية المتمثّلة برُهاب الإسلام"، تكتب: "كألمانية أقف مذهولة أمام هذا الهجوم المُتكرّر والمُخجِل لكلّ ألماني ذي ضمير على الفلسطينيّين".
غاية الكتاب الذي صدر أولاً بالألمانية بُعيدَ انتفاضة 2021، وأهدته المؤلّفة "إلى أطفال غزّة: من بيت حانون إلى رفح"، هي الوقوف عند أحداث تلك الهبّة الشعبية التي عمّت فلسطين بدءاً من حيّ الشيخ جرّاح واشتباكات باب العمود في القدس، والداخل المحتلّ عام 1948، والعدوان الإسرائيلي الموازي لهذه الأحداث على غزّة، إذ شهدت فلسطين "توحيداً تاريخياً" في ذلك العام. لكن للدخول إلى عوالم هذه الانتفاضة تستدعي الباحثة "عملية تنوير من خلال جذب الانتباه إلى الحقائق الماثلة في فلسطين التاريخية"، يكون في مركزها البحثي النظرُ بـ"عمليات التطهير العِرقي والاستعمار الاستيطاني" منذ عام 1948.
تأسيسٌ على مفهومي التطهير العرقي والاستعمار الاستيطاني
"استعراض تاريخي (1948 - 1967)" عنوان الفصل الأول من الكتاب، حيث تُبيّن الباحثة "أنّ المعنى المركزي للنكبة في القاموس الفلسطيني في تهجيرهم وتحويلهم إلى لاجئين، واستمرّت عملية التهجير أكثر من سنة". كما تُقدّم نماذج لذكريات ذلك العام كما انطبعت في نفوس قيادات ومثقّفين فلسطينيّين مثل جورج حبش، وغسان كنفاني، وصلاح خلف (أبو إياد)، وإبراهيم أبو لغد، وإبراهيم اللدعة. ولفهم النكبة وتأويلها، فإننا لا نقف في السردية الصهيونية على إثبات تهجير أكثر من سبعمئة ألف فلسطيني، فـ"الفلسطينيون تركوا مُدنهم وقُراهم لأن القيادات العسكرية والسياسية العربية أمرتهم بذلك". وبالتالي "لم يعُد هناك مكان يستطيع المرء العودة إليه"، حسب المؤرّخ الصهيوني بيني موريس، الذي تُفنّد باومغارتن مقولته هذه من خلال اشتغالات سلمان أبو ستّة ("طريق العودة") وأدب غسان كنفاني بعمومه، وقسطنطين زريق ("معنى النكبة").
الاستعمار الاستيطاني والتطهير العرقي مفهومان تأسيسيّان في الكتاب؛ الأول كما حدّه المؤرّخ الفرنسي مكسيم رودنسون ("إسرائيل: واقع استعماري؟"، 1966)، والثاني من خلال إيلان بابيه ("التطهير العِرقي في فلسطين"، 2006). وكذلك نور مصالحة الذي اشتغل بعُمق على "الترانسفير" (التهجير القسري)، في كتابه "طرد الفلسطينيّين: مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيّين 1882 - 1948". كما يُثبت الكتاب الاستخدام الأول لنَعْت "إسرائيل" بـ"دولة فصل عنصري"، وكان ذلك عام 1961، وبصيغة "مدح" وليس ذمّاً، على لسان رئيس وزراء جنوب أفريقيا هندريك فيرورد.
عشرون عاماً أُخريات بين نكسة 1967 وانتفاضة 1987، هي المدّة الزمنية التي يرصدها الفصل الثاني، تشتعل المقاومة في غزّة بعد احتلالها، وتشرع "إسرائيل" بإنشاء معسكرات اعتقال في صحراء سيناء، وتهجير منظّم لغزيّين صوب العريش (لم يُكشف عن هذه الوقائع إلّا بعد مرور 50 عاماً من وقوعها). على الضفّة المقابلة تبرز "معركة الكرامة" 21 آذار/ مارس 1968، التي أسسّت لصعود "فتح" بقيادة ياسر عرفات على الساحة العربية. ومن بعد ذلك التاريخ تشهد الساحة الفلسطينية محطّات عديدة؛ مثل "أيلول الأسود" (1970)، وانتقال المقاومة الفلسطينية إلى لبنان ومن ثم الخروج منه إلى تونس إثر اجتياح "إسرائيل" لبيروت عام 1982. بالمختصر تبدو سنوات عقديْ السبعينيات والثمانينيات، كما تكتب باومغارتن، "سلسلة متصاعدة من الهجمات ضدّ الوجود السياسي والوطني، وحتى البدني للفلسطينيين في الشتات وفي المناطق المحتلّة على حدّ سواء".
كشْفُ حيوية الشعب الفلسطيني السياسية بعيداً عن الأسطرة
لكن انتفاضة 1987 التي يتناولها الفصل الثالث، إلى جانب الارتدادات السياسية لـ"اتفاقيات أوسلو" حتى بعد عشر سنوات من توقيعها عام 1993، هي ما ستعيد للقضية زخمها السياسي ومن بوابة غزّة التي اندلعت منها الشرارة الأولى للانتفاضة. كما أنها ستُصدّر لاعباً فلسطينياً جديداً: "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس)، وقد تحوّلت على يد مؤسسها الشيخ أحمد ياسين إلى المعارضة الأهم ضدّ "منظّمة التحرير" بقيادة عرفات الذي حوّل الحركة الوطنية الفلسطينية، من خلال "اتفاقيات أوسلو" (1993) التي أقرّت "التعاون الأمني"، إلى "شرطي" في خدمة الاحتلال. تكتب باومغارتن مستعينة بآراء لإدوارد سعيد وجوزيف مسعد: "في كامب ديفيد الثاني، حاول عرفات الشروع في انقلاب إلى الخلف، بعد أن أدرك أنّ الدخول في مفاوضات أوسلو كان غلطته السياسية الكبرى التي تكاد تكون قد اتخذت بُعداً تاريخياً. إلّا أن الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيّين منذ نهاية عام 2000 حالت دون ذلك وقادت إلى وفاته".
هذا التاريخ الذي تعرضه صاحبة "من التحرير إلى الدولة" (2006)، قد يكون معروفاً بإطاره العام لقارئ عربي، لكنّ أهميّته تكمن في صياغته الدقيقة التي تُظهر حيوية الشعب الفلسطيني السياسية؛ فضلاً عن كونه مكتوبا أصلاً بالألمانية وموجَّها لجمهور غربي مؤطّر بأسانيد الاستشراق، وعُقدة ذنب من "الهولوكوست" حلَّها على حساب شعب آخر وبمحرقة أُخرى. في هذا الفصل بالتحديد، نقع على خريطة أيديولوجية مُتشابكة، وتفسيرٍ لكيفية تحرُّك القوى السياسية، ضمن قراءة عقلانية وواقعية بعيداً عن أسطرة المُعطيات والوقائع، على مختلف نوايا الأسطرة إيجابية كانت أم سلبية.
في الفصل الخامس "الانتخابات 2004 - 2006" تقرأ الباحثة الظرف السياسي خلال هذين العامين، الذي مهّد إلى "حرب إسرائيل الطويلة على غزّة 2006 - 2021"، عنوان الفصل السادس والأخير في الكتاب.
تُحدّد باومغارتن هذه السلسلة من الحروب بأنها إبادة وحشيّة، و"من أجل ذلك طوّر العسكر الإسرائيلي ما يُسمَّى 'عقيدة الضاحية' التي طُبّقت للمرّة الأولى في حرب لبنان 2006". ولا تفصل الباحثة بين الحرب والحصار "الذي يتحكّم منذ عام 2007 في كلّ وجه من أوجه حياة الناس اليومية في غزّة". كما أنها لا تقول "الحرب" من دون أن تُنبّه أنها ليست بين دولتين أو خصمين متساويين، فـ"الحروب ضدّ غزّة هي بالأحرى دائماً وأبداً معارك غير متكافئة تماماً بين قوّة إقليمية هي "إسرائيل"، التي تملك سلاحاً نووياً وسلاحاً جوّياً هو الأقوى والأفضل في المنطقة، ومزوَّدة بأحدث منظومات الأسلحة في العالم، وبين المنظّمات الفلسطينية في غزّة".
لا شكّ في أنّ تنبيه الباحثة على مدى الوحشية يظلُّ نسبياً لو قارنّاه بالحرب الأبشع والأطول التي تُتمُّ غداً شهرها الرابع. فعلى سبيل المثال، نجدها تتحدّث عن "إجراء هانيبال" (قتل إسرائيل لأسراها)، والذي أرادت "إسرائيل" من خلاله الحؤول دون ممارسة ضغوط عليها عبر عمليات اختطاف لجنودها. وهذا ما نشاهده اليوم بشكل فعلي، حيث تمّ تدمير مباني القطاع فوق رؤوس ساكنيه، كما تمّ قتل العديد من الأسرى الإسرائيليين الذين اختُطفوا في عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. بهذا تشكّل عدوانات "إسرائيل" خرقاً واضحاً لمبدأين رئيسيين من القانون الدولي الإنساني: مبدأ التمييز بين المدنيّين والمُقاتلين، ومبدأ التناسُبية.
أخيراً لئِن كانت هلغى بومغارتن تؤرّخ لحركة النضال الفلسطيني منذ عام 1948، فإنها تلتفت أيضاً في خاتمة كتابها إلى أصوات التضامن العالمي، فتأتي على ذِكر منظّمات وجمعيات ناشطة في هذا السياق مثل "الصوت اليهودي من أجل السلام" في ألمانيا والنمسا وسويسرا، و"نساءٌ بالسواد" في فيينا، وشخصيات سياسية كوزير المالية اليوناني الأسبق، يانيس فاروفاكيس، والمؤرّخ إيلان بابيه. وهنا حريٌّ أن نقول إنّ المؤلّفة بعملها هذا، وإنْ كانت لها زاوية النظر الخاصة بها في تحليلها ومُقاربتها، لا تقلّ شأناً عمَّن ذكَرتهم. وبكلمات صريحة نجدها تكتب بعد أسبوع واحد فقط على بدء العدوان: "أين الدعوات إلى وقف فوري لإطلاق النار؟ أين الضغط الشديد على إسرائيل كي توقف هذا الجنون؟ أين الضغط على إسرائيل كي تضع أخيراً حدّاً لنظام الاحتلال والاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصري؟".