كتبت غلوريا غرفيتز قصيدة طويلة واحدة نشرتها نهاية سبعينيات القرن الماضي، وأعادت إصدارها بنسخات موسّعة ومراجَعة عدّة مرات، ولكنها نالت حظها الدائم من الترجمة إلى لغات عدّة وكتابات نقدية تقارنها بقصائد ذات مناخات مشابهة حول الهجرة لدى شعراء عالميين.
عملٌ شعري واحد يشكّل معادلاً موضوعياً لحياة الشاعرة المكسيكية (1943) وتجاربها المتعدّدة وخلاصات أفكارها على مرّ السنين حتى أتمتّها مطلع الألفية الثالثة، وهي لا تشمل سيرتها الذاتية وذكرياتها العائلية فقط، إنما تمثّل نوعاً من كتابة التاريخ المشبعة بالفلسفة والتصوّف والتأملات.
عن "دار خطوط"، صدرت النسخة العربية من "هجرات" حديثاً بترجمة الشاعرين العراقي جاسم محمد والفلسطيني الأردني فخري رطروط اللذين يشيران في تقديمهما إلى صدور نسخة سابقة من المجموعة عن إحدى دور النشر العربية، لكن "النسخة الجديدة تختلف عنها بأوجه عديدة؛ تغيّرات شتى طرأت على القصيدة، أجزاء اختفت وأجزاء أُضيفت، العناوين الداخلية اختلفت أيضاً".
هـل الكتابة في أحد معانيها هجرة والتذكّر هجرة أخرى؟
في سردها المتدفق صور وحالات، تذهب غريفتز إلى ما هو أبعد من تسجيل اللحظة، عبر تفكّرها وتدبّرها في كلّ ما يحيط من حولها، ويمّر أمامها من أحداث، وتختبره من مشاعر، وهي تبدو في كلّ ذلك تؤسّس اشتباكاً لا ينتهي مع معنى الحياة وكيفية عيشها، إذ تقول في أحد المقاطع:
"نحن حصيلة أفكارنا
أفكار تتناسل
اللقالق تعود
تفتحُ الصمتَ بأجنحتها
وفجأةٌ زهورٌ بيضاءُ في سماء خاليةٍ
وقت الظهيرة في المدن
أبعد وأبعد جنوباً
حين يطبقُ القيظُ على أنفاس الجبال
دائماً صوب الجنوب، هناك حيث لا شيء يحدث
أفضّل التشبّث بما أختلق
فلا أدرك شيئاً عما هو حقاً موجود هناك
أفضّل الحلم بأني أموت على الموت من أحلامٍ تخلقني؟
أغفو ثانية دون حلم
والضوء ينزلق فوق شفا النهار
وصراخ الأشجار يصم الأذن
والمساء يكرّر ذات الكلام
لا تفتح هذه الفسحة الحقيقية
إنها الفضاء الوحيد الصالح للسكن"
يوضّح المترجمان في المقدّمة أن "سؤالاً آخر يطرح ذاته من خلال قصيدة "هجرات" هـو: ماذا تفعـلُ القصيـدةُ بالشاعر، أهـو ذاتُـه كـما كان قبـل كتابتهـا؟ وبما أنها - بوجه من أوجهها - حوار مع الذاكــرة، مــن نحــن إذاً بعـد أن نسـترجع الذاكـرة؟ هـل الكتابـة في أحد معانيهـا هجـرةٌ أخرى، والتذكّر هجرة أخرى؟".
في استرجاعات الذاكرة/ الهجرة، يحضر الخوف في تمثّلات لا تعدّ ولا تحصى، حيث تدوّن غرفيتز: "أنا الآن في أعمق ما هو مسموح به/ لا ذنوب/ ولا ندم/ لا شيء هناك يُغفر عنه/ هناك خوف فحسب"، وتكتب في مقطع ثان: "الخوف يدفعني للخروج من الخوف/ أرغم نفسي على الخروج من نفسي"، وتقول أيضاً: "أنبذ الخوف وأهجره/ والخوف هائج/ خشن/ فظ/ هناك".
تتكرّر مفردة "الخوف" سبعاً وثلاثين مرّة في القصيدة، بينما تستخدم "الوحدة" و"وحيداً" و"وحيدة" لأكثر من ثلاثين مرة، وهي مناخات تحيل إلى التذكر واستعادة الذاكرة التي تكرّرت أيضاً اشتقاقاتها بالعدد نفسه أيضاً، لتتبدى الكتابة عن كشف مستمر بكل ما يخفق في الجسد من شهوات، وما يدور في الذهن من أفكار، وما يحّسه المرء من مشاعر بمنتهى الصدق والجرأة.
يلفت محمد ورطروط في تقديمهما إلى أن "الهجرة في جوهرها تحوّل مفتوح على كلّ الاتجاهات والذاكرة كذلك، شيءٌ ما يحدث معنا حين نشرع بالكتابة أو التذكّر؛ إذ إن استرجاع الأحداث والصور ليس فقط تدويناً لزمن مضى أو لسيرة تاريخية، وإنما سبيل معرفة ما آلت إليه الذات البشرية، سبيل للارتقاء نحو ما يمكنها أن تؤول إليه".
تكتب غرفيتز في أحد المقاطع:
"حينها كنت مقيمة في الحلم أو كان الحلم في زيارة عندي
كالمسافر أشعر بالإرهاق قبل الوصول
أريد أن أفهم أو أستفيق
الماء يلمع كسكين
كان نهر النسيان".