ليس هذا العدوان الإسرائيلي الأول على غزّة، الذي يخوضُه الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستّة (1969)، لكنّه بالتأكيد الأبرز والأشدّ ارتباطاً باسمه، بعد أن صارت شهاداتُه عن واقع المستشفيات والكوادر الطبّية في غزة، منذ بداية العدوان حتى خروجه من القطاع، في السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، مرجعاً يكشف للعالم البربرية الصهيونية. الطبيب الذي عاد من بريطانيا ليتطوّع في "مستشفى الشفاء"، والمتخصّص في الجراحة التجميلية والترميم، وأستاذ "طبّ النزاعات" في "الجامعة الأميركية" ببيروت، كان قد وضع كتاباً، بالاشتراك مع مُحاوِره الصحافي والباحث ميشال نوفل، بعنوان "سردية الجرح الفلسطيني: تحليلٌ للسياسة الحيوية الإسرائيلية"، صدر عن "رياض الريّس للكتب والنشر" عام 2020، وقد أُعيد إطلاقُه يوم الجمعة الماضي، في "ملتقى السفير" ببيروت.
على طول فصول الكتاب الخمسة، لا نقف أمام الجُرح كإصابة تتطلّب علاجاً طبّياً وكفى، بل نحن أمام تعبير حيوي بيولوجي، أو كما يقول أبو ستّة: "في كلّ جرح كنتُ أرى الحرب تتجسّد أمامي... كانت (الجروح) النافذة التي أُطلّ منها على تلك الحروب. الجرحُ يُصبحُ أرشيفاً بيولوجياً يُمكنني من خلاله قراءة هذه الصراعات، وفَهْم المشاريع السياسية المتعلّقة بها".
الإبادة السياسية والعرقية تجتمع في حروب "إسرائيل"
يمهّد أبو ستّة ونوفل للعمَل عبر إطار نظري يعتمد منهج "السياسة الحيوية" (Bio-politics)، المفهوم الأثير والمؤسِّس عند الفرنسي ميشال فوكو (1926 - 1984)، والذي أثبتاه في العنوان الفرعي للكتاب. فالاستعمار الاستيطاني في الحالة الفلسطينية، كما يوضّح أبو ستّة ونوفل، هو آخر ما بقي من أشكال الاستعمار الاستيطاني الغربي، الذي اعتمد منذ نكبة عام 1948، على مفهوم "التطهير العرقي" (تفريغ فلسطين من حيويتها وطاقاتها السكانية). بمعنى آخر ومختصر، يُمكن تعريف السياسة الحيوية، هنا، بأنها سعيٌ حثيث للتحكّم بمفاصل الحياة والصحّة والمجال العام، واستخدام السلطة الحيوية لفرض التجزئة على الجغرافيا الفلسطينية، وتقطيعها إلى معازل منفصلة. وفي هذا السياق، تحضر غزة، من خلال الدفع بها، صهيونياً، كي تظلّ "مجتمعاً على حافة الانهيار"، من دون دفعه تماماً إلى الهاوية، فحروب 2009 و2014 هدفت إلى تحويل غزّة إلى مجرّد "أزمة إنسانية"، أو وجود ديمغرافي من دون حقوق سياسية واقتصادية.
"الترابُط بين الطبّ والسياسة"، عنوان المقدّمة التي وقّعها ميشال نوفل، ويُبرِز فيها الصيغة الحِوارية التي بُني على أساسها الكتاب، والتي استندت في تفاصيلها إلى تجربة أبو ستّة الميدانية والنظرية والعِيادية، وهو في شقّ منه تعريفيٌّ بجملة مفاهيم كالأنثربولوجيا الطبيّة، و"طب النزاعات" الذي انعقد أول مؤتمر عالمي حوله في "الجامعة الأميركية" ببيروت عام 2016.
أمّا الفصل الأول، فحمَل عنوان "طبيب في حقل النزاعات"، وفيه إضاءة على سيرة أبو ستّة، التي تبدو أشبه بسير الأطبّاء المُناضلين المُلتحِقين بالثورات، لكنّها سيرة يتلازم فيها المنحى السياسي بالطبّي، في سلسلة من الحروب امتدّت بين العراق وسورية وقطاع غزة. لتبقى نقطة التأسيس الفارقة في التزام الطبيب هي الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، يكتب: "جاء صيف 1982... حينها كنتُ في الثالثة عشرة، وهو الأمر الذي ساعد في تبلور الوعي السياسي لديّ بعيداً عن 'الحياة الطبيعية'". ويتابع: "كان والدي يصرُّ على أنه في حال اختياري دراسة الطبّ، فإنّ عليّ أن أكون متميّزاً... فالعمل السياسي، برأيه، ملهاةٌ تُبعِد عن الدراسة... ثم طرأت أمور كثيرة ساعدت في تكوين مساري، منها وصول هاني الهندي (أحد مؤسّسي حركة القوميين العرب إلى جانب جورج حبش ووديع حداد) إلى الكويت (حيث كان يعيش الطبيب وعائلته)، عقب محاولة اغتياله في قبرص... وانفتاحي على كرمه حيث إنه كان يُسلّفني الكتب ويتفرّغ للحديث معي. وأيّ شخص كان يعيش في الكويت خلال تلك الفترة، كان يعرف أنّ لناجي العلي تأثيراً في وعيه السياسي".
نبقى مع الفصل الأول، وهو يتدرّج في عرض السيرة بأبرز مراحلها: الانتقال من الكويت للدراسة في "جامعة غلاسكو" عام 1989، في الوقت نفسه كانت الانتفاضة في أوجها، وانخراطه في "جمعية العون الطبي للفلسطينيين" (MAP)، وبعد ذلك التاريخ بعام يزور الطبيب غزّة لأول مرّة، ويُعالج جرحى التظاهرات في "المستشفى الأهلي" (المعمداني)، قبل أن يعود إلى عمّان ومنها إلى عراق ما بعد نهاية حرب الخليج، ومن ثم جنوبي لبنان. كذلك يتناول الفصلُ التقدّم الطبّي (المُنجَز الكلينيكي) من خلال ربطه بالخلفية السياسية، بدءاً من اتفاقيات أوسلو (1993)، مروراً بالانتفاضة الثانية (2000)، ثم حروب 2008 و2012 و2014، وصولاً إلى مؤتمر "طب النزاعات" (2016).
وثّق لاستخدام الفوسفور الأبيض والقنابل الفراغية في غزة
"حربٌ للإبادة السياسية أولاً" عنوان الفصل الثاني، حيث المنطلق حرب 2008 على غزة، التي ضربت فيها "إسرائيل" القطاع الفلسطيني، بأكثر من مليون ونصف المليون كلغ من المتفجّرات، واستخدمت نوعاً جديداً من الفوسفور الأبيض يُقذف من الجو أو البرّ ويسبّب تشوّهات كبيرة، وفي تلك الحرب بدأ استخدام "الدايم" (Denes Inerte Material Explosive) الذي يُحدث عمليات بترٍ خطيرة في الأطراف، وظهر الاستخدام الأول للقنابل الفراغية. أمّا في حرب 2014 فبدأنا نرى إبادات كاملة للعائلات. وللحروب على غزة، كما يوضّح هذا الفصل، أهدافٌ عسكرية وسياسية أولاً، لكن في جوهرها لا يخلو من تسويق البضاعة الحربية، والاتجار بها على المستوى العالمي، وكذلك تطوير حقل الصناعة نفسها.
يُمارس المشروع الصهيوني الإبادة الجسدية سعياً إلى تحقيق الإبادة السياسية (Politicide)، أي إلغاء الجسم السياسي الفلسطيني. وهُنا، علينا أن نفهم النكبة، كما يُشدّد أبو ستّة، على أنها عملية متواصلة، وليست حدثاً فحسب. وعندما تكون التركيبة السكانية في قطاع غزة كلّها من اللاجئين، فإنما هذا يعني أن الـ48 هي نقطة البداية والنهاية في أيّ عمل أو فكر سياسي. وهذه المُعادلة تنطبق على إشكالية غزة والتعاطي الإسرائيلي معها.
ينتقل أبو ستّة في الفصل الثالث إلى مناقشة "القيمة السياسية لجروح الحرب"، وفيه يقرأ "تغيُّر" القيمة السياسية لإصابات الحرب، ربطاً بالمشروع الذي تقوده النخبة سواء نجح أم فشل، وبالتالي تتحوّل هذه القيمة السياسية إلى المعيار الرئيسي الذي يُحدّد توافر الرعاية الصحية للمريض أو حجبها. وهنا نكتفي بمثال واحد يُفسّر هذه الرؤية، حيث يروي الطبيب أن شابّاً في الأربعينيات من عمره جاءه مرة وهو يُعاني من إصابة في النخاع الشوكي، ويعيش في حيّ السلّم بالضاحية الجنوبية لبيروت، وكان مريضاً لدرجة أنه عُرضة لأزمة سوء تغذية حادّة، وتقرّحات بجسمه، قبل أن يكتشف الطبيب أنه الولد الذي حملته والدته هرباً من تلّ الزعتر قبل أن تخترق رصاصة نخاعه الشوكي وتقتل الأم. يُتابع: "قبل 1983 وقبل أوسلو كان من المستحيل وقوع المريض بمثل هذه الحالة المأساوية، لأن جرحه وسرديّته كانا في قلب الخطاب السياسي للنخبة الفلسطينية!".
إذاً، القيمة التي تمنحها النخب السياسية للجرح الناتج من الحرب، "تبلغ ذروتها عندما تكون رواية الجرح متوافقة تماماً مع المشروع السياسي للنخبة الحاكمة، وفي هذه المرحلة يُصبح هذا الجرح شكلاً من أشكال الاستجابة الحيوية، إذ تضعه الرواية المرافقة له ضمن سياق الأيديولوجيا السائدة".
في الفصلَين الأخيرَين من الكتاب: "النُّخَب والسلطة والاحتلال"، و"النظام الصحّي والسياسة الحيوية"، يستعيد الطبيب التحليل الأنثربولوجي للنظام السياسي الفلسطيني الذي شهد تحوّلات شبيهة بتلك التي حصلت في سورية والعراق ومصر، ومنها صعود البرجوازية الصغيرة القادمة من الريف عبر العسكرة. أمّا من جهة الاحتلال فقد استهلك، اليوم، طبقة أوسلو، ولم يعُد بحاجة إليها. إلى جانب استيعاب، الفصل الرابع بالذات، نقداً وتفكيكاً عميقاً للبُنى الأيديولوجية التي تُحرّك الفصائل الفلسطينية، أو بالأحرى هذه الأخيرة ترفعها وتتبنّاها.
ويقارب أبو ستّة قراءته للنظام الصحّي عبر المفهوم الفوكوي الذي انطلق منه، أي "السياسة الحيوية"، مُنبّهاً إلى أن الدولة العربية بعد الاستقلال استخدمت القطاع الصحّي كأدوات لشرعنة سلطتها. وهُنا يطرح الطبيب الفلسطيني مثالاً، أن الأحزاب الحاكمة في ليبيا وسورية والعراق كانت بحاجة لطبقة متوسطة تكنوقراطية موالية لها، مقابل الطبقة المتوسطة المدينية، وهذه الثقافة السياسية العربية كانت موجودة لدى منظّمة التحرير منذ تأسيس "الهلال الأحمر" الفلسطيني، حتى الانتفاضة الأولى. قبل أن ينتهي هذا التوجّه في مركزية الطبابة مع تقهقر المشروع التحرّري، ومن هنا فإن الشباب الذين يتعرّضون للإصابة حالياً في الضفّة الغربية، لا نسمع شيئاً عنهم ولا توجد حملات لتوفير العلاج لهم في الخارج.
ومع التشوّه الذي أصاب النظام الصحّي، اشتدّت قدرة الاحتلال على التحكّم بمفاصل الحياة، فلكي يحصل المريض الفلسطيني على تصريح يسمح له بالعلاج في القدس، عليه تقديم تصريح من غزة للإسرائيليّين، على ألّا يكون صاحب الطلب قد دخل السجن، وهو الأمر الذي ينطبق على أقربائه أيضاً، وحسب تقارير لـ"منظّمة الصحّة العالمية"، فإن 55 بالمئة من طلبات العلاج في الضفة تُرفض! وعلينا ألّا ننسى كيف أن "إسرائيل"، كما يختم أبو ستّة، تُنتج مالاً بعد كلّ حرب على غزّة، "ليس فقط من الترويج للسلاح، بل من إدارة أعمال الإغاثة.. وعلى هذا النحو تجري عملية إعادة إنتاج الجسد باعتباره موجوداً كقيمة إضافية".