في حبكة متعدّدة الطبقات، يقتفي الروائي التونسي الحبيب السالمي (1951) في "عطلة في حيّ النُّور" (دار الآداب) التحوّلات التي طرأت على حياة التونسيين والتونسيات. ففي سرد سلس وثيمة تتغلغل في نص سهل ممتنع، تتورّط شخوص الرواية في رسم مسار هذه التحوّلات.
يتكئ السرد على شخصية عادل، المغترب التونسي الفرنسي، الذي يزور وطنه الأم قادماً من فرنسا لقضاء عطلة بعد غياب 12 عاماً من عطلة سابقة، تَبدَّل فيها الكثير بعد "ثورة الياسمين". لكن السالمي يتّخذ من شخوص أُخرى مرآة تعكس صورة تونس من جوانب مختلفة؛ منها لمياء، الصحافية المطلَّقة، وعبد الله حارس العمارة في "مجمع الفل السكني"، و"الزرميط" صاحب الكلاب، فضلاً عن شخوص ثانوية مكمّلة لهذه الشخوص.
وإن كان رصد التحوّلات يُعبّر عن المعيش اليومي لهذه الشخوص، وهو أسلوب دأب السالمي عليه في العديد من رواياته، كما في "روائح ماري كلير" و"الاشتياق إلى الجارة"، فإنه يُراكم في هذه التفاصيل أيضاً ذرى رتيبة تتصاعد في حياة الشخوص لتصل إلى ذروة سردية هادئة، لكن عميقة الأثر.
إذا كان السأم ما دفع عادل للهجرة إلى فرنسا، علّه في تبديل الأمكنة يتخلص من سأمه أو يبدّده قليلاً؛ فإن عطلته في تونس كانت مليئة بالفضول، فبمجرّد أن تطأ قدماه أرض تونس، يبدأ المكان يفاجئه بالمتغيرات؛ منها ما يتعلّق بأمور مادية واجتماعية ودينية، ومنها ما هو وثيق الصلة بتحوّلات طرأت على الأمكنة وسلوكيات الناس وتوجّهاتهم المتناقضة في المسكن والملبس وعلاقات الجيرة، كما العلاقات العاطفية والأُسرية والزوجية؛ إذ ارتفعت نسَب الطلاق إلى مستوى غير مسبوق بعد الثورة، وازدادت نسب البطالة، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية المزرية وانتشار التطرّف والنفاق والفساد.
يرصد الروائي المقيم في باريس منذ 1985 أثر الخيبات في حياة الناس، ويقتفي التحوّلات في سياق السرد عبر شخصية عادل، لكن بحيادية "المراقِب" خلف قناع من السطحية والسذاجة، بل غالباً ما يلعب دور مُنصتٍ صامت يتأرجح بين الصدمة والتعاطف والدهشة والشهوة والخيانة والذهول. لا يدين عادل أحداً بقدر ما يسعى للفهم.
شخصياتٌ متعدّدة تعكس صورة تونس من جوانب مختلفة
وإذ يُشرك الكاتب شخوصاً أُخرى في رصده السردي لهذه التحوّلات، أبرزها عبد الله حارس العمارة (وزوجته المحَجَّبة مريم ووليد ابنهما المراهق)، فلكَي يقتفي التحوّلات في حياة الرجال والنساء والمراهقين. وإن كانت مريم تمثّل شريحة واسعة لظاهرة التحجّب التي ازدادت انتشاراً، تُمثّل شخصية لمياء - الصحافية المطلَّقة وزميلة عادل السابقة في الجامعة - شريحة أُخرى أكثر تحرّراً وتعلّماً وربّما تخبّطاً، بل تلعب دوراً محورياً في الكشف عن علاقات الحُبّ المأزومة، وانتهازية الرجال التي تفاقمت بما يشير إلى انسداد أفق التغيير في تحسُّن وضع المرأة التونسية.
أمّا الشخصية الثالثة، فهي "الزرميط" (صاحب الكلاب)، والذي يجسّد الفوضى التي تصاحب الثورات ويسعى للاستفادة منها من غير انتظار التغيير الذي حلم به التونسيون والتونسيات. وإذ بشخوص أُخرى ثانوية تتغلغل داخل السرد لتُعبّر عن خيارات تحمل في طيّاتها هموماً لم تتغيّر منذ ما قبل الثورة.
تتقاطع هذه الهموم، عند العديد من الشخوص، بين الحلم بالهجرة - لا سيما إلى فرنسا - كفرصة للترقّي، وأُخرى في اختيار دروب الثراء عبر زيجات مدبَّرة، حتى لو ارتكبت خطيئة المساومة على الذات كما في حالة سعاد ابنة خالة مريم.
وتُعبر قضية المثلية الجنسية هاجساً للبعض ممّن يقلقهم عدم تقبُّل المجتمع لهم وليس السلطة الجديدة، فيما تُمثّل قضية المرأة دَور العابر للهموم في علاقات الشخوص في ما بينها، تتراوح بين اللجوء إلى الحجاب كمعطىً يمكن أن يُوفّر سياقاً للتكسّب أو للانجرار وراء السلفيات الدينية، يقابله رفض متطرّف يوحي بخلفية نسوية لتيار - تُجسّده سامية صديقة لمياء - لا يتورّع عن إقامة علاقات مثلية تحت غطاء التحرّر النسوي.
غالباً ما يدفع الحبيب السالمي شخصيته الرئيسية إلى مونولوغ داخلي يمارسه داخل السرد، بل يلجأ لإعارة التخييل لعادل؛ إذ يمنحه مساحة سردية كي يقوم هو نفسه ببناء شخوص لمجموعة من النساء اقتحمن المقهى بعد ساعات من التسوّق للدردشة وتناول المشروبات، وهي ظاهرة جديدة على المجتمع التونسي، بحسب عادل.
تعكس مجموعة النساء تباين التحوّلات داخل المجتمع التونسي في ملبسها وطريقة تعاطيها عبر لغة جسدٍ تراوحت بين الانفتاح والمحافظة، منح لبعض من هؤلاء النسوة في متخيله أسماء وقصصاً حياة متخيَّلة ومكوّنات شخصية، أضافت للرواية نكهة مبتكرة داخل الحبكة الروائية، هي مزيج من التراجيديا والكوميديا الساخرة.
أول ما يطالعنا به السالمي، عبر شخصيته الرئيسية عادل، هو التردّي في "مجمع الفل السكني"، كاستعارة للتراجع الذي طرأ على البنية التحتية في تونس، بدءاً من خلع البوّابة الرئيسية للمجمع من قبل "مجهولين"، ربّما لبيعها كخردة، أو لمجرّد الأذى من قبل أفراد استغلّوا الفوضى التي تأتي مع الثورات ليعيثوا فساداً ودماراً وحرقاً ونهباً كان "الزرميط" أو "صاحب الكلاب" - كما سمّاه عادل - رمزاً لها؛ إذ شارك في الاحتجاجات التي انطلقت ضدّ نظام زين العابدين بن علي، لكنّه أيضاً شارك في عمليات نهب وسرقة للمَحال التجارية وإحراق العديد من المؤسَّسات الحكومية كغيره ممّن أطلق عليهم لقب "الحرّاقة"، كما استولى على أرض عند مدخل المجمع وبنى عليها "سوبرماركت" لنفسه بطريقة غير شرعية، ومن دون رخصة من البلدية، واقتنى لنفسه ثلاثة كلاب يخيف بها المارّة وتُعينه في الشجارات مع أهالي "حيّ النُّور"، ليتكشَّف لعادل، الذي تعرَّض لاستفزازه أكثر من مرّة، عن شخصية وطنية، إذ يحبّ بلده ويرفع علمها، ويهتف مع عادل لتحيّتها في المقهى حين يفوز الفريق الوطني لكرة القدم ضدّ فريق غينيا ويتأهّل إلى المونديال.
بعد تلك الواقعة، يتوقّف "صاحب الكلاب" عن استفزاز عادل، بل يبادر إلى استضافته في متجره ليُسِرّ له بهمومه البسيطة وعشقه لتونسية تحمل الجنسية الفرنسية تُدعى سارة، يرغب بالزواج منها على خلفية حلمه بالهجرة إلى فرنسا، خاصّةً بعد قطع باب رزقه بإقفال الشرطة لمتجره بذريعة عدم قانونيته. يصبُّ جام غضبه على الحكومة التي تَعد التونسيين بـ"القضاء على البطالة، لكنّها لا تحفل بقطع رزقه في نفاق تمارسه ضدّه".
بالتوازي مع هذه الشخصية، يلعب عبد الله؛ حارس العمارة الذي تنشأ بينه (وزوجتُه مريم) وبين عادل صداقةٌ حميمة منذ العطلة السابقة، رغم الفارق الاجتماعي والمادي والثقافي بينهما. وإن كانت زوجتُه من مؤيّدي حزب "النهضة"، فهو ميّالٌ لمعارضته... خلافاتٌ أُسرية شكّلت ظاهرةً انتشرت بين الأُسَر وأفضت في كثير من الحالات إلى الطلاق.
بعد أن يلتقي عادل صدفةً في "مقهى الأُمراء" بلمياء مع صديقتها النسوية سامية، يعيش معها قصّة حُبّ لم تكتمل؛ حُبّ تغلب عليه نار الشهوة، لكنه ينطوي على الحنين إلى الذات والوطن، في تأرجُح يلوّن العديد من روايات الحبيب السالمي الذي يُعد من أبرز كتّاب المهجر التونسيّين.
يرصد البطل أثر الخيبات ويقتفي التحوُّلات بحيادية
يتردّد عادل بدايةً في التقرّب من لمياء، لأنّه غير متأكّد من مشاعرها. يُخامره الخوف من خيانة زوجته الفرنسية صوفي، فيما تتردّد لمياء بسبب خيبات الحُبّ التي عاشتها مع الرجال التونسيّين. إنْ مع زوجها، أو بعد طلاقها، وتعيش كامرأة مطلَّقة منفتحة وجميلة في مجتمع تعتبرها فيه الزوجات تهديداً داهماً، فيما يعتبرها الرجال فريسةً سهلة من غير عائق لغشاء البكارة.
تدرك لمياء لاحقاً أنّ تحرُّرها يغري الرجال، لكنّه يخيفهم من الزواج بها. لذا تتردّد بدورها في الاقتراب من عادل. حتى حين تصحبه إلى شقّتها وتأخذ بتقبيله وتتأجّج الرغبة بينهما، تعود وتتراجع من غير أن يفهم ماذا جرى. وحين تُفصح له عن إعجاب صديقتها سامية به، يغزوه الشك في أنّها أكثر من مجرَّد صديقة. يغادر خائباً، لكنّه ما يلبث أن يُطفئ شهوته مع سعاد؛ ابنة خالة مريم التي كانت تتحرّش به في العطلة السابقة - مع أنها صارت محجَّبة.
تغيب لمياء لبعض الوقت بعد تراجُعها عن النوم معه في شقّتها، ثمّ ما تلبث أن تتّصل به وتُعرّفه إلى صديقها المثلي فوزي؛ فنّان تشكيلي تونسي عاش ودرس في فرنسا، وندم على عودته إلى تونس لأنّها لم تعُد صالحة لأمثاله، خاصّةً بعد صدور قانون "فحص الدبر"، ورغم إنشاء إذاعة خاصّة للمثليّين من قبل الحزب الحاكم (النهضة)، وإن تمّ افتتاحها بشكل سرّي في فندق محميّ بالشرطة. وهو ما يعتبره فوزي مشكلة لا تكمن في السلطة، بل في المجتمع الذي لا يتقبّلهم.
تنتهي الرواية نهاية غامضة؛ إذ يعلّقها الحبيب السالمي في فراغ المجهول، حيث تختفي لمياء كلّياً، ولا تردّ على اتصالات عادل المتكرّرة، بعد تزايد مؤشّرات عن علاقة مثلية تجمعها بصديقتها سامية.
يختفي أيضاً عبد الله وعائلته، تاركاً باب الشقّة المظلمة موارباً، ولم يبق على عادل إلّا ساعات ويغادر إلى فرنسا، يقضيها في غرفته بعد أن هام ساعات على وجهه يتنشّق هواء تونس، متجوّلاً في أحيائها ليُخزّن في ذاكرته صور مبانيها وأسواقها وبحرها وسمائها، إلى أن يهدّه التعب فيعود ليتّصل بلمياء، لكن لا جواب. ينظر مجدَّداً إلى شقّة عبد الله، فيجدها ما زالت معتمة. وحين يتذكّر "الزرميط"، صاحب الكلاب، يُطلّ من نافذته على المتجر ليتحقّق من هدمه، فيجده ما زال مقفلاً ومجهول المصير.
نهاية روائية غامضة غموض مصائر شخوصها وتحوّلاتها التي شاء الكاتب - ربما - أن يُعلّقها في فضاء السؤال الذي يتفحّص المصير الوجودي للإنسان عبر معيش يومي ما يزال يحفل بمزيد من التحوّلات.
* كاتبة وصحافية فلسطينية
الرواية رقم 12
"عطلة في حي النور" هي رواية الحبيب السالمي الثانية عشرة بعد: "جبل العنز" (1988)، و"صورة بدوي ميت" (1990)، و"متاهة الرمل" (2000)، و"حفر دافئة" (2002)، و"عشاق بية" (2004)، و"أسرار عبد الله" (2006)، و"روائح ماري كلير" (2008)، و"نساء البساتين" (2010)، و"عواطف وزوّارها" (2013)، و"بكارة" (2016)، و"الاشتياق إلى الجارة" (2019). له في القصّة: "مدن الرجل المهاجر" (1977) و"امرأة الساعات الأربع" (1986).