استمع إلى الملخص
- تأخر ترجمة أعمال نيرودا إلى العربية، حيث لم يُترجم ديوانه الشهير "عشرون قصيدة حبّ وأغنية يائسة" حتى عام 1994، مما يعكس الاهتمام المستمر بشعره.
- تُبرز الترجمة أهمية إحياء النصوص الأدبية في ثقافات جديدة، حيث تُضفي كل ترجمة حساسية لسانية مختلفة، مما يعكس الطلب المستمر على الأدب العالمي.
يكاد النقّاد والقرّاء العرب يُجمعون على أنّ الشعر التشيلي هو الأكثر التصاقاً بقلوبهم، والأقرب إلى ذائقتهم ووجدانهم، دون باقي شعراء القارّة الأميركية اللاتينية. ويكفينا، لكي نستدلّ على ما نزعمه، أن نذكر غابرييلا ميسترال، المرأة الوحيدة في العالم الناطق بالإسبانية التي حازت "جائزة نوبل" (1945)، فصيّرتها الجائزة أكثر شهرة ممّا كانت عليه، واحتُفي بها في العالم العربي بأن ترجمها كلٌّ من نادية ظافر شعبان وحسب الشيخ جعفر في ديوانَين.
ومن بين المعاصرين الأحياء الشاعر المتميّز راؤول زوريتا، الذي عُرف من خلال قصائد تُرجمت له في مجلّات وملاحق ثقافية عربية. ونقتصر على ذِكر هذين الاسمَين البارزَين بصفتهما نموذجاً يدلّنا على الاهتمام الذي يوليه القارئ العربي للأدب التشيلي.
ويحظى الشاعر بابلو نيرودا (1904 - 1973) بمكانة خاصّة لدى القرّاء العرب، فهو الأشهر عندهم من بين الشعراء التشيليّين والأميركيّين، ليس فقط بسبب حصوله على "جائزة نوبل"، بل لأنّه أدرك العالمية منذ صدور ديوانه الشعري "عشرون قصيدة حُبّ وأُغنية يائسة"، والذي يُحتفى بمئوية صدوره منذ بداية هذا العام، بصفته عملاً بصم تاريخ الأدب العالمي، وواصل الحياة بحيوية أكثر وإيحاء أقوى، محافظاً على توهّج شعلته الإبداعية.
يُمثّل تواصُل نشر الديوان في لغته الأصلية، وفي ترجمات جديدة، دليلاً على قيمته وأهمّيته وأثره. وجليّ أنّ هذه المعطيات تكشف لنا الوقع النفسي والفنّي الذي لهذا الديوان الذي يحمل ختم عبقرية نيرودا التي طبعت أجيالاً من القرّاء، في لغات متنوّعة وثقافات مختلفة.
حلّ نيرودا ضيفاً على الثقافة العربية عبر الترجمة، عند حصوله على "نوبل" سنة 1971، وقد يسّرت له هذه الجائزة حضوراً متميِّزاً عبر عمل المثقّفين العرب، خصوصاً اليساريّين منهم، الذين وظَّفوا وسائل تواصلهم المتنوّعة، فتكفّلوا بالتعريف به لدى القارئ العربي شاعراً يسارياً وشيوعياً مناضلاً، وبصفته اسماً بارزاً في الأدب العالمي، فاهتموا بنشر نصوصه مترجَمة، لأنّهم رأوا فيه مثالاً يُحتذى في العالم الثالث، لتكامل تجربته الإبداعية وتواشجها مع التزامه السياسي والاجتماعي.
في الواقع، مثّلت مذكّرات نيرودا، التي عنوانها "أعترف بأنّني قد عشتُ"، أوّل ما تُرجم له مباشرة عن اللغة الإسبانية، سنة 1975 بمدريد، وقد تكفَّل بذلك الشاعر والناقد والمترجم الفلسطيني محمود صُبح (1936 - 2022). وظهرت الطبعة الثالثة من الكتاب سنة 2015، دون أن نغفل عن القصائد المترجَمة له إلى العربية أيضاً، والتي نُشرت في بعض المجلّات والملاحق الثقافية منذ حصوله على "جائزة نوبل".
تُرجم إلى العربية بعد سبعين عاماً على صدوره بالإسبانية
واللافت هو أنّ دواوين نيرودا تأخّرت ترجمتُها إلى العربية كثيراً، فديوانه "عشرون قصيدة حُبّ وأُغنية يائسة" (1924) لم يُنقل مباشرة إلى العربية إلّا سنة 1994، أي 70 عاماً بعد طبعته الأُولى، بصدوره في القاهرة بترجمة ماهر البطوطي، وتبعتها ترجمةٌ ثانية عن الإسبانية أيضاً، من إنجاز علي محمد السيّد عن "المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة سنة 2009، أي بعد 15 عاماً من الطبعة المصرية الأُولى، وتبعتها ترجمة ثالثة لمروان حدّاد عن "دار البعث" في دمشق سنة 2010، أي 16 سنة بعد الترجمة المصرية الأُولى، وأخيراً صدرت ترجمة رابعة عن "دار التكوين"، وقد أنجزها عن الإسبانية مُباشرةً الشاعر العراقي المقيم في مدريد محسن الرملي، بعد 13 عاماً بعد الترجمة الثالثة.
ماذا يعني صدور هذه الترجمات الأربع للديوان نفسه، على فترات زمنية متباعدة نسبيّاً وفي أمكنة مختلفة؟
تذهب المترجمة سوزان لانج، صاحبة الترجمة الأخيرة لـ"دون كيخوته" إلى الألمانية، إلى أنّ الأعمال تُترجَم أكثر من مرّة، ليس بسبب مضمونها فحسب، بل من أجل الشكل أيضاً، وحرصاً منها على الحفاظ على جوهر العمل، لأنّه وفق والتر بنيامين، ينبغي للترجمة ألّا تولي الأهمّية للمضمون وحده، وتغفل عن الشكل الذي له، هو الآخر، أهمّيته القصوى في الحفاظ على الجوهري في العمل.
ويتهيّأ لي أنّ ظهور ترجمات جديدة للعمل نفسه يعني أنّ شعر نيرودا لا يزال إلى الآن يحافظ على راهنيّته، وأنّ نص "عشرون قصيدة حُبّ وأغنية يائسة" في لغته الإسبانية لم يُستنفد بعد، بمعنى أنّ ما يحويه من قصائد ما يزال قابلاً لأن ينفتح على عدد لانهائي من التأويلات، وأنّ كلّ تأويل، أي ترجمة، تمنحه حياة أُخرى في جغرافية ثقافية مغايرة.
ولا غرو أنّ كلّ مترجم من المترجمين الأربعة المذكورين قد تحمّس لتقديم نسخته العربية الخاصّة به، لإحساسه بأنّها الأكثر اقتداراً على تمثيل الشاعر التشيلي في غير لغته وثقافته، ولاقتناعه بأنّها تضاهي الأصل، متصوّراً أنّ نيرودا لو كان عربيّاً أو ناطقاً بالعربية، لكتبها على النحو الذي أخرجها عليه مترجمُه.
لكنّي لا أستبعد إمكان أن يكون كلُّ واحد من المترجِمين، محمود علي السيّد ومروان حدّاد ومحسن الرملي، قد أحسّ بعدم الرضى عن كلّ ترجمة سابقة عليهم، أو أن يكونوا قد شعروا بأنّها قد هرمت، وأنّهم قد أدركوا في ذواتهم القدرة على تجويدها، وواجب الارتقاء بها، لذلك السبب بادروا إلى تقديم نسخاتهم، بل ترجماتهم، معتقدين أنّها الأقدر على إعطاء الديوان حياة أطول، بمعنى أنّها يُمكن أن تكون الأقرب إلى جوهر الشاعر التشيلي.
كذلك أعتقد أنّ الناشرين اللاحقين لم يُجازفوا بالاستثمار في ترجمة ونشر الترجمة الجديدة التي توافرت لديهم من هذا العمل، هذا إذا لم يكونوا قد اقتنعوا بأنّ هناك طلباً من جهة القارئ العربي المتعطِّش إلى قراءة أفضَل ما يتوافر من الأحسن.
معلومٌ أنّ الترجمة رحلة، وأنه عبرها يحلّ نصّ، ندعوه أصليّاً أو نصّ انطلاق، ضيْفاً في حمى لغة وثقافة غريبتين عليه، نسمّيهما لغة الوصل أو ثقافة الوجهة. وطبيعي جدّاً أن يتقبّل الأصل، أثناء الرحلة، تحوّلات وتغييرات تؤثّر في كلّيته. بمعنى آخر، أن يقبل بحدوث تغييرات في شكله ومحتواه.
هكذا سيقف قارئ الترجمات الأربع لـ"عشرون قصيدة حبّ وأغنية يائسة" على أنّ كلّ واحدة تنبعث منها حساسية لسانية مختلفة عن غيرها، وأنّ كل واحدة منها تتناول مظاهر لم تعالجها الترجمة السابقة، وأنّه بهذه الطريقة تعمل كلّ واحدة منها بما تُضيفه، على تبرير حقّها في الوجود، وفي أن تنافس الأُخريات على الفوز بثقة القرّاء وإعجابهم.
* أكاديمي ومترجم من المغرب