تنامت الحركة التضامُنية مع قضية فلسطين، عالمياً، خلال العدوان الصهيوني المستمرّ على غزّة، كما بِتنا أمام مَشاهد لمُظاهرات شعبيّة كبيرة تخترق المُدن والعواصم الغربية، تُندّد بالمِحرقة القائمة وتُطالب بإنهاء الاحتلال. وقد تَكلّل هذا المشهد بمُرافَعَة جنوب أفريقيا، ضدّ الاحتلال، في "محكمة العدل الدولية"، يومَي أمس الجمعة وأول من أمس الخميس. فضلاً عن أنّ اليوم السبت؛ الثالث عشر من كانون الثاني/ يناير، هو يوم للتحرّك العالمي، حيث تُشارك فيه قرابة 55 مدينة حول العالم، في مظاهرات من أجل وقف إطلاق النار في غزّة.
لكنّ هذا التضامُن لم يحدُث فجأةً، هناك إرثٌ أُمَميٌّ كبير ومُمتدّ منذ نكبة 1948. فالقضية الفلسطينية كانت محطَّ مُناصرة عند الكثير من المُناضلات والمناضلين، ومنهم مَن دفع ثمن هذه المُناصَرة من دمه، كالناشط والمُصوِّر البريطاني توماس هُرندال، الذي يُصادِف اليوم، ذكرى مرور عشرين عاماً على استشهاده، بعد أن استهدفه، وهو في رفح، جنوبي قطاع غزّة، بطلقة في الرأس، أحد قنّاصة جيش الاحتلال الإسرائيلي.
من العراق إلى غزّة
وُلد هُرندال بلندن، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1981، وبعد حيازته إجازة في الصحافة المُصوَّرة من "جامعة مانشستير متروبوليتان"، انضمّ إلى أحد الفِرق المُناهضة للغزو الأميركي للعراق عام 2003، في محاولة لمنع تلك الحرب الإجرامية التي قادتها الولايات المتّحدة بذات الأسلوب الاستعماري، الذي تقود وتُدير به، اليوم، العُدوان ضدّ الشعب الفلسطيني.
لكن أمام ذلك الواقع الاحتلالي الغاشم، وغير المردوع حينها؛ انتقل هُرندال إلى الأردن، وحاول من هناك أن يُواصل عمله ورسالته الإنسانية التي انطلق من أجلها، بوصفه عضواً في "حركة التضامن العالمية"، فبدأ بالعمل الإغاثي للّاجئين العراقيّين أولاً، ثم شقّ طريقه، لاحقاً، صوب غزّة، ليصل إلى رفح، في السادس من نيسان/ إبريل 2003.
نتذكّره اليوم كما نتذكّر راشيل كوري وجيمس ميلر وفيتوريو أريغوني
من رفح راح هُرندال يوثّق عبر الصورة، الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحقّ سكّان غزّة، في محاولة منه لإيصال الصوت الحقيقي الذي تخشاه السردية الصهيونية. وفي تلك الفترة كان القطاع الفلسطيني ما يزال يشهد حركة استيطانية، ولم تكن قوات الاحتلال قد انسحبت منه بعد.
في إحدى مقالاته، التي كتبها عن تلك الفترة ونشرتها إحدى الصحف البريطانية بعد استشهاده، نجده يصف ما عاينه عند وصوله، وبأنه سبق وأن تعرّض لإطلاق نار من قبل قوّات الاحتلال.
قتْلٌ مُعلَن
إقامة هُرندال على أرض غزّة لم تطُل كثيراً، ففي الحادي عشر من نيسان/ إبريل 2003، نصبت مجموعة من الناشطين الأُمَميّين خيامهم على أحد الطُّرق في رفح، لمنع الدبّابات الإسرائيلية من إطلاق النار باتجاه المتظاهرين الفلسطينيّين العُزّل.
حاول هُرندال إنقاذ أحد الأطفال الذين تجمّدوا في أمكنتهم، بعد انسحاب المتظاهرين من شدّة غزارة الرّصاص، لكنّ قنّاصاً صهيونياً مُتمركزاً في أحد أبراج المراقبة العسكرية، ويُدعى تيسير الهيب، أطلق النّار مُباشرة على المصوّر البريطاني، رغم ارتدائه لسترة برتقالية تُميِّزه كناشط في "حركة التضامن الدولية".
أُصيب توم في رأسه، ودخل إثر ذلك في غيبوية طويلة، دامت تسعة أشهر تنقّل خلالها بين عدد من المستشفيات، حتى أُعلِن عن استشهاده في مثل هذا اليوم قبل عشرين عاماً.
يُذكر أن المُجرم الهيب ينتمي إلى القبائل البدوية التي يُشارك بعضُ أبنائها في خدمة جيش الاحتلال، وقد أُطلق سراحُه بعد ستّ سنوات فقط، قضاها في السجن، كما رفضت "إسرائيل" طلباً بريطانياً بالتحقيق معه.
صحيحٌ أنّ أيّام هرندال في غزّة كانت معدودة، لكنّ أثرَها تجاوز الحدود الوقتيّة المُباشرة. فها نحن نتذكّره اليوم، كما نتذكّر الناشطة الأميركية راشيل كوري التي دهستها جرّافة للاحتلال في 16 آذار/ مارس 2003، وصانع الأفلام جيمس ميلر الذي قتلته قوّات الاحتلال في أيار/ مايو 2003، والناشط الأُممي فيتوريو أريغوني الذي اغتالته مجموعة مُتشدّدة مشبوهة عام 2011، وكلّ هذه الأسماء، وغيرها الكثير، يجمعها الإيمان بقضية فلسطين.
جيلٌ جديد
في السابع عشر من نيسان/ إبريل 2023، نظّمت عائلة المُصوّر والناشط البريطاني لقاءً تذكارياً حول حياة ابنها الشهيد، شاركت فيه مجموعة من الناشطين والكتّاب وداعمي القضية الفلسطينية، ومنهم المؤرّخ إيلان بابيه الذي كتب: "كان توم في أوائل الأربعينيات من عمره، لو لم يقتله الإسرائيليّون، ولا شك في أنه كان سيزال مُلتزماً ونشطاً دفاعاً عن فلسطين".
وتابع: "هناك جيلٌ جديد من النشطاء اليوم، حيث لم تتوقّف فلسطين عن إلهام الشباب الواعي في جميع أنحاء العالَم، الذين يرون أنّ الظُّلم هناك يجسّد الظُّلم في العديد من الأماكن الأُخرى حول العالَم. إنّ طاقاتهم والتزامهم مثل المياه العذبة اللّازمة لإرواء عطش الناس تحت نير الاستعمار والقمع. ولكنّ مثل أي مياه نقيّة، يجب جمعها وتوجيهها، حتى لا تضيع".
كما صدر في حزيران/ يونيو الماضي، عن "أوبن بوك ببلشرز"، كتابٌ بعنوان "من أجل فلسطين: مقالات من مجموعة محاضرات توم هُرندال التذكارية"، حرّره إيان باركر، وشارك فيه: سلمان أبو ستة، وإيلان بابيه، ورانيا مصري، وآدم هنية، وكرمى النابلسي وآخرون.
وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أجرى أنطوني هُرندال، والد توم، لقاءً إعلاميّاً مع "وكالة الأناضول للأنباء"، واعتبر أنّ حكومات الغرب متواطئة في "القتل المتعمّد للمدنيّين على يد الجيش الإسرائيلي"، وذكّر بأن "إسرائيل" لم تعترف بمسؤوليتها عن قتل ابنه إلّا بعد أن تعرّضت لضغوط سياسية كبيرة، بالإضافة إلى تناول القضية في الصحافة.
استُلهمت حياة هُرندال ونضاله في عدد من الأعمال الفنّية، منها العمل الموسيقي "السماء تبكي" (2004) الذي ألّفه فيليب مونغر، وأهداه إلى روح الشهيدَين المصوّر البريطاني والناشطة راشيل كوري، وفيلم سينمائي بعنوان "إطلاق النار على توماس هُرندال" (2008) للمخرج البريطاني رُووِن جوف، وكتابٌ وضعته والدته، جوسلين، بعنوان "تحدّي النجوم: حياة وموت توم هرندال المأساوي" (2007).