يدخل بطرس وخليل وهيلانة وسالم الدار الجديدة ناجزة، يفضي الباب الغربيّ الرئيس إلى ليوان طوليّ في آخره واجهة، كل حاجياتهم الصاعدة من الدار القديمة إلى أعلى لا تشغل ربع غرفة من الدار الجديدة. تبهر الفسحة هيلانة وتسمي الدار قصرًا، وسيضع بطرس في الليوان، قبالة الباب الرئيس مباشرة فراشًا ويجلس فوقه، سيبدو ملكًا وهو في مركز الدار، بعباءته السوداء وتحتها ثوبه المحزوم، وعلى رأسه عمامته البنيّة. ينظر بحزم صوب الباب كأنه ينتظر أول القادمين، يحوي بقبضته اليمنى ركبته اليمنى المثنية، أما يسراه فيندس إبهامها في زناره. جسمه مائل ورأسه مستقيم، لحيته شابت عن آخرها، وعيناه استحال بياضهما أحمر واضحًا، تنفجّ منهما أخاديد تمتد حتى نهايات وجهه.
حين ترى هيلانة هذه الجلسة تسارع لجلب القهوة، تضعها أمامه على الأرضيّة المبلّطة برسم هندسيّ مزخرف، لم تبن ألوانه وضّاءة إلا اليوم بعد شطف الأرض وتنظيفها. جلب خليل كرسيًّا ووضعه عند زاوية الفراش وجلس، ببذلته الكحليّة وياقته العالية ونظارته البارزة وشعره المرتّب، وضع ساقًا على ساق وقابل الباب عن يمين أبيه. وفي الجهة المقابلة يسارًا، جلس سالم، نصف جلسة كأنه يهمّ بالوقوف، متوسطًا بين ضمّ ساقيه ومدهما لينهض. وهيلانة ظلّت واقفة في الفسحة الخلفيّة بين بطرس وخليل، تضع كفها الأيسر على الأيمن وترخي يديها أمامها، وتنسدل خرقتها السوداء من أعلى رأسها، لا يثبّتها إلا ارتفاع رأسها إلى الخلف وصعود حنكها متقدمًا عن وجهها كلّه. نظروا كلّهم صوب الباب. صورة أخرى لعائلة النجار لم يلتقطها مصوّر. نحن من فعلنا. سالم في الصورة ولكنّه على مبعدة، كأنه فرع طويل من نواة دار النجار.
لو دخل حينها أيّ داخل لأجفله تحديقهم كأنّهم ينتظرونه، ولكنّ بسمة الرضا ليّنت ثقابة نظراتهم. ظلّوا على تلك الحال طويلًا، كأنهم يتأكّدون من حلول هذا الوقت، وإنجاز الدار التي ستطرقها السنون والخطوب، تفعل بها الكثير وهي في محلّها تراقب تبدّل الأزمان وتفرّق الخلان والتئامهم. منزلًا لعائلة النجار، لفرحهم وحزنهم ولكل ما اتصل بهم من بشر وحوادث.
يقطع خليل الصمت الهنيّ، يبارك لأمه وأبيه، ويقول إن البيت بحاجة لما يملأه، لا يمكن أن نبني كل هذا ليظلّ فارغًا، سيحدّد اللوازم مع هيلانة لاحقًا، ولكنه سينظر لأبيه ويقول: "بدنا نجيب خزاين للثياب، وللمطبخ، وطقم كنب لليوان، وطاولة للأكل، ومراية كبيرة، وسراير حديد. وحاجات للمطبخ جديدة. اه وفوانيس".
صار المطبخ غرفة واضحة محددة، وصار النوم في غرفة، والجلوس في غرفة، والأكل في غرفة، واستقبال الضيوف في غرفة. شوّشت كل هذه التقسيمات ذهن هيلانة، أرهقها التفصيل، توزيع أفعال العيش على غرف. كل هذا حصل في غرفة واحدة منذ وعت الدنيا.
أكثر ما شوّش هيلانة في الدار الجديدة أن للغرف أبواباً
وزاد خليل تشوّشها بقوله إن هذه ستكون غرفة للسفرة، وأشار إلى الفرندة بأقواسها الثلاثة، "بنجيب طاولة خشب بتليق بدار النجار يا أبو خليل وبنحطها هون". سكتت هيلانة على مضض، سيخصص للأكل أجمل بقعة في الدار؟ درّة القصر ومركز بهائه! خطا خليل إلى الفرندة كأنه يحادث نفسه، قال إنه سيغلق الأقواس بزجاج ملوّن وسيبني شرفة على عمدان أمامها، كبيرة وواسعة، وأخذ يمدح الإطلالة الفريدة على رام الله ويسرح إلى جلسات صيفية على الشرفة الواسعة وفرحٍ وخلوِّ بال سيبعثه الجلوس فيها.
وجم بطرس وهيلانة وسالم يراقبون خليل، فرحًا مزهوًا وغائبًا في رأسه، ما يدور في رأسه أكثر من الفرح، ظنّ بطرس. لحظتها وخليل يتخيّل عشاء على الفرندة رأى إلى جانبه كاثرين تشاركه جلسته وطعامه وسعادته، ثم تنبّه إلى أنّ شرفات أخرى في رأسه خلّقت الشرفة التي يريد بناءها في دار رام الله، شرفات في أميركا التي أيقن أنه يشتاق إليها.
سينزاح الطعام والأكل مع الزمن، من حاجة قارصة تستيقظ النساء لسدّها في الفجر، من أقلّ القليل والمحكوم بالمواسم ووفرة المطر وشطارة الزرّاع، من مناسبات نادرة يجتمع فيها الناس حول صوان كبيرة يغرفون بأياد مستعجلة الرز والخبز واللحم إلى أفواه في وجوه متغضّنة، ثم ينهضون من فورهم إلى بقية الحياة، سينزاح إلى فسحة أطول أدركتها هيلانة بأثر من خليل، سيصير الطعام جلوسًا طويلًا حول طاولة الخشب، وستتعنى هيلانة حتى يختفي الخدر من فخذيها من جلسة الكراسي عند الأكل وخلاله والأتعب بعده. خليل يحب الحكي على الطاولة، بطرس ينسحب إلى الشرفة ليشرب قهوته متمددًا على الفرش والبسط، وهيلانة تجد نفسها ملزمة بالبقاء مع خليل يتحدث بعد فراغه من الأكل، وإن انخرط سالم في الحكي تشكر ربها وتقوم لتريح رجليها في المطبخ. من حاجة ينشغل البدن بسبل إشباعها إلى طقس حميم تحوّل الطعام والأكل، ولكن على مهل وبكثير من الوقت والتشويش في ذهن هيلانة.
أما أكثر ما شوّش هيلانة في الدار الجديدة أن للغرف أبوابًا، كأنها دور منفصلة. صحيح أن الأبواب لن تغلق لسنوات، ولكن مجرد وجودها بين الغرف كان كثيرًا على أم خليل، وستنهك كثيرًا من أعصابها وهي تفكر في أسباب إغلاق سالم باب غرفته، سيظل إغلاق أبواب الغرف يعني حدثا طارئًا أو خطبًا مقلقًا قبل أن تعتاده هيلانة. أما بطرس فلم يعجبه سرير الحديد الذي ذكره خليل، ولكنه لم يعترض، فابنه أدرى وأخبر.
لولا أن بطرس دفع الكثير من ثمن الأثاث الجديد والغريب، الذي قيل في رام الله عن خشبه إنه نادر قادم من غابات لا يذوب فيها الثلج، وزادت ألوان قطعه بهرج الدار الفسيحة، لشكّ أنه ضيف في الدار، وكاد يغلبه شعور بالغربة عند دخولها أول مرة، إلا أن النوافذ الطويلة والأبواب المشرعة التي تظهر منها رام الله مكوّنة حدود عالم بطرس، وضعت البيت في مكانه الدقيق والأليف في عقل بطرس وقلبه. هذه داره ودار ابنه، ورام الله التي تحتضن البيت وتطلّ عليه من كل اتجاه متسلّلة من الأبواب والشبابيك ستذوّب غرابة الأثاث وجدّة نمط العيش، المحسود ممن لا يملكون ما لبطرس من مال وما لخليل من دراية بكل جديد.
في محلّها تراقب تبدّل الأزمان وتفرّق الخلان والتئامهم
كلما تمايز الناس في طرائق عيشهم ذاب الحاضر، سيبدو أنهم منقسمون بين مَن يعيشون في المستقبل ومن يعيشون في الماضي، سيتشوّش الحاضر. وخليل كان آتيًا ليأخذ بيد أهله إلى الزمن الجديد، وفي رام الله كان كثيرون يسارعون إلى ذلك الزمن، تعرف ذلك من دورهم الباهرة قبل أي شيء آخر.
الإرباك الذي لم يكن حلّه يسيرًا هو سرير الحديد. الغرفة الجنوبيّة الغربيّة عن يمين الداخل من الباب الغربيّ الرئيس، هي غرفة نوم بطرس وهيلانة، كما قال خليل. وضع العتالون فيها سريرًا كبيرًا وعاليًا. خليل راقبهم وهم يدخلونه ويركّبونه في الغرفة من كنبته في الليوان ممسكًا برسائل يقرؤها. بطرس لاذ بالوقار وخرج إلى الشرفة، وهيلانة في الغرفة تراقب.
حين انتهى وعليه وضع فرشه، انطرح فوقه السؤال، من سينام عليه؟ وحين قال خليل: "إلكم"، كاد بطرس يطلق صيحة استنكار غير لائقة. هيلانة وضعت يدها على وجهها خجلًا، رغم أنها اجتازت كل أعمار الخجل.
لم ينم بطرس وهيلانة قريبين إلى هذا الحد منذ عرفها، كانا يقتربان إن رغبها فقط، وحين يقوم عنها تنام بعيدًا في مكانها المعهود. هي تذكرت حينها دخلتها، حين عاشرها بطرس في علية من قش فوق دار أبيه. ذاك الموضع صار الآن تحت زاوية المطبخ الجنوبيّة الشرقيّة. تلك العريشة التي أحاطت بهما كانت مع الليل سترهما، وزادت هي الصمتَ كما نبّهتها أمها، "بنت الناس ما بطلعلهاش صوت، دير بالك وبيظي وجهنا". ولم يطلع صوت لهيلانة طوال حياتها مع بطرس في أوقاتهما تلك، إلا حين يستبدّ بها ألم لا يدركه بطرس في غمرة انهماكه بإنهاء ما يفعل، فتقول له: "يا بطرس.. هونك"، هو دومًا أبو خليل أو النجار، أما وهو يعتليها فهو بطرس.
استعادت ذاكرة القش تلك مرارًا، في معاشرات ربيعيّة في الأرض، داخل المناطير أو في أجمة من بلوط وزيتون، في مواسم ربيعية دافئة والقمر يلمع على ظهر بطرس، والبدر يتوارى عن عيني هيلانة حين يرفع بطرس جذعه ورأسه، ويعود ليظهر من خلف رأسه حين يدكّ جسدها وينزل عليه، البدر يبزغ ويأفل في عينيها وفق وتيرة معاشرة بطرس. كان الناس يتعاشرون في الأرض كأجدادهم وكل الموجودات يا دكتور عماد، ما يحتاج لغرفة موصدة في زمنك، كان يحدث في غير مكان في زمنهم.
استعادت هيلانة ذاكرة القش وهي تنظر للسرير.
* مقطع من رواية "رام الله"، منشورات المتوسط 2020