هل تروي رواية "رام الله" لعبّاد يحيى سيرة مدينة رام الله حقًا؟ من السهل بعد قراءتها القول إن الرواية تفعل، ولكن الأدق هو القول إنها تُقدّم سيرًا تشكّل بدورها سيرة المدينة في ما بعد. فالرواية في أساسها تروي سيرة أهل رام الله وناسها أولًا، أولئك الذين يشكلون، بطبيعة حياتهم وأنماط معيشتهم وعلاقتهم ببعضهم بعضا وبالآخر خلال عقود متتالية، سيرتها وصورتها وتحولاتها، إذ إن القارئ سينظر إلى المدينة، ويصممها ويتخيلها ويكوّنها أيضًا في مخيلته، عبر هذه التفاصيل المتعلقة بالحياة اليومية في المدينة خلال أمد زمني يقترب من 150 عامًا.
فما يمرّ من تفاصيل وأحداث في الفترة الممتدة بين خروج الطبيب من منزل موسى الشلبي في بداية الرواية أول القرن العشرين، ومشي عماد العايش باتجاه الشرق في نهايتها، في 2017، تفاصيل تجيب عن أسئلةٍ مختلفة منها: كيف عاش أهل رام الله؟ كيف كانت طبيعة حياتهم وعلاقاتهم؟ وكيف تعاملت أجيالها المتعاقبة مع تحولاتها وتبدلاتها؟ وتبدو هذه التفاصيل كفيلةً ببناء صورة دقيقة، دقيقة جدًا في مراحل ومجالات بعينها، للمدينة في ذهن القارئ، خصوصًا أن عبّاد يحيى عمد إلى بناء سرديّ مكّنه من التعامل مع هذه التفاصيل وروايتها بعد بحث تاريخيّ واجتماعيّ، ليقنع القارئ بها.
ويتبين من خلال التفاصيل السابقة أن رواية "رام الله" ليست رواية تسرد سيرة مدينة فحسب، وإنما رواية تبحث في معنى الوجود الذي يظهر في تنوع عوالمها، وفي ما يراه وما لا يراه القارئ أيضًا، الأمر الذي يجعل من الرواية سردًا لسفر الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معينين، بالإضافة إلى أنها تدوين لوجوده وموقعه داخلهما أيضًا، أكثر من كونه تدوينًا لتاريخٍ بعينه.
هل تروي رواية "رام الله" سيرة مدينة رام الله حقاً؟
يبحث صاحب "رام الله الشقراء" إذًا، بقصدٍ أو من دونه، في وجود الإنسان بطريقته الخاصة ومنطقه الخاص أيضًا. ويكشف أيضًا، عبر تعدد الحكايات والشخصيات، والتنقل المستمر بين الأزمنة، مظاهر وجوده المختلفة. فهناك فصول، على سبيل المثال، تبحث فيها الرواية عن معنى الحب داخل المدينة، في أزمنتها المتعددة، عبر قصص حبٍ مختلفة، تبدأ بقصة نعمة وموسى الشلبي، ووديع ونعمة، عماد وريما، ريما وغسان، سالم وماري، مريم ومازن ثم جهاد. بالإضافة إلى فصولٍ أخرى تتوغل فيها الرواية في العوالم الداخلية للإنسان، في محاولة لتقديمه إلى القارئ انطلاقًا مما يحدث في داخله، وذلك عبر رصد طبيعة علاقته بنفسه وبالآخرين أيضًا، مثل علاقة بطرس النجار بعائلته، وعلاقته بابنته نعمة تحديدًا، وعلاقة الأخيرة به وبأمها وبابنها الذي حمل اسم والدها، جده، لا اسم أبيه. وعلاقة جميل برام الله وأصوله وهو فيها ثم من منفاه، وعلاقة سالم برام الله حين يعود إليها مرارا بعد الهجرة إلى أميركا، وعلاقة الدكتور عماد مع زوجته وهو يعرفها من جديد بعد موتها.
توضّح هذه الشخصيات كيف يتغير، فجأة، معنى المكان وصورته في نظر أهله وسكانه. ويتضح أيضًا أن أفعال هذه الشخصيات - باعتبارها أفعالا الغرض منها غالبًا اكتشاف الإنسان لصورته الخاصة - هي المسؤولة في نهاية المطاف، عبر مراكمتها لهذه الصور، عن تشكيل صورة المدينة.
* كاتب من سورية