صديقي أحمد جمعة

10 اغسطس 2024
فلسطينيون يتفقدون الأضرار التي لحقت بمدرسة الزهراء بعد غارة إسرائيلية، 2024، (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- أحمد جمعة قرر الذهاب إلى غزّة خلال حرب الإبادة، وانضم لمنظمة خيرية في القاهرة لجمع التبرعات والمستلزمات الإنسانية.
- درس الفلسفة في لندن وعمل في أماكن متنوعة، لكنه ظل شغوفاً بالقراءة والكتابة والتعليم، وتمتع بروحانية صوفية وفنية.
- دخل غزّة عدة مرات، وساعد الأطفال والنساء، ووثق معاناتهم، مما جعله رمزاً للإنسانية والأمل. الكاتب يوجه تحية لأحمد ولجميع الأبطال.

في بداية حرب الإبادة على غزّة، اتّصلَ بي صديقي العزيز أحمد جمعة من الدنمارك حيث تسكن عائلته الفلسطينية، وقال إنّه يريدُ الذهاب إلى غزّة. قلتُ ممّا قلتُ له آنذاك إنّ هذا صعب، وربما يُجاور المستحيل، فلم أرَ أُفقاً لذلك. وما هي أسابيع حتى سمعتُ منه أنّه في القاهرة، يبحث ويقلّب حتى وجد منظّمة خيرية يقودها شباب طيّبون وشجعان حقّاً. التحقَ بهم وأصبح معهم، يعمل في مخزن لجمع التبرّعات والأشياء المطلوبة لغزّة المكلومة، ويسهر الليل وهو يضع المستلزمات الإنسانية في صناديق حتى تُرسل إلى غزّة.

رأيتهُ بعد أكثر من اثنتي عشرة سنة في القاهرة؛ فقد كنّا ندرس معاً في جامعة سواس بلندن، وتخرّج بعدها من قسم الفلسفة من جامعة بيربيك كوليج في لندن أيضاً. وكان كما عهدتهُ رجُلاً طيّباً، دمثاً، صاحب دعابة وعقل وهّاج بالأفكار والخواطر، ورجُلاً قبل كلِّ شيء ذا مبادئ، لا يُثرثر، لكنّه يتكلّم ويتبادل في ما ينفع ويخلق جوّاً يُشعر الإنسان معه بالأنس والراحة.

عملَ أحمد في دكّان جامعة سواس بلندن، وفي مطعمِ أخيه في الدنمارك، وفي مكتبة في كوبنهاغن، وظلّت القراءة والكتابة الأقرب إليه، يتبعهما ويجد لنفسه حيّزاً هنا وهناك لممارسة هوايته في التفكير، وتعليم الناس. وأحمدُ صاحب روح وروحانية لا تخلو من صوفيّة الفنّان ورهافة الشاعر، وجسارة الفيلسوف.

بطولةُ هؤلاء هي التي تُحدث فرقاً بين الموت والحياة

أكتبُ لأقول إنّ أحمد صديقي دخل غزّة أكثر من مرّة، وناور من هنا ومن هناك وعاد ودخلها بعد أن أُغلق معبر رفح، وغُلّقت الأبواب تماماً على غزّة. ظلَّ أحمد وفيّاً لأهل غزّة وفلسطين. وجد نفسه في مساعدة الأطفال والنساء والمكلومين في غزّة. يصحو صباحاً مع زملائه الأشاوس من أصحاب الإغاثة، ولا سيما الشاب العراقي عبد السلام، بحسب ما أذكر اسمه، ويعود معهم ليُخطّط نشاطات المساعدات لليوم التالي في غزّة، وهكذا. يلفُّ ويدور ولا يكلُّ عن توزيع المساعدات للناس، ليُخفّف عنهم الهموم والأوجاع. ويصوّر فيديوهات من غزّة ويضعها على منصّات التواصل، يتكلّم بإنكليزية واضحة عن الجحيم، وعن جهود الإنقاذ والمساعدات والإغاثة والأمل من أقاصي مساحات المعاناة والقهر. ويبتسم بوجهه العالي، ويُبدي رضاه عن أنّه قُدِّر له أن يكونَ عوناً لأهل غزّة في أحلك أوقاتهم.

أرى أحمد صديقي هناكَ، أراه بكاملِ براءته وجماله وصدقه وفلسفته وشجاعته، أرى نفسه تكتمل وتُقابل ذاتها الواسعة التي كانت تبحث عن معنى أصيل، تاركةً خلفها خواء الفضاء الأوروبي لمن هو عميق التفكير، كبير الروح مثل أحمد.

وإن كنتُ أوجّه تحية لأحمد، فإنّها تحية لآلاف الأبطال الصادقين من أصحاب الإغاثة الذين يُوزّعون الماء والخضار والطعام والدواء، وما أمكن، على أهلنا في غزّة الصامدة المكلومة. بطولةُ هؤلاء هي التي تُحدث فرقاً بين الموت والحياة في أحيان كثيرة، وبطولتهم هي مثال الإنسانية الذي يُحتذى به، هي طريقُ السموّ والالتحام مع المظلومين، وتثبيت الروح في أخصب الأماكن، ووضع النظرية والتطبيق العلمي والعملي داخل مداه الأساسي، الإنسان وحياته، وموقعه من هذه الإنسانية البعيدة عن غزّة الآن.

تحية لصديقي أحمد، ولعبد السلام، وتحية محبّة خالصة لهؤلاء الذين يُصرّون على أن يكونوا في وسط الخطر والنكبات المستمرّة ليُخفّفوا عن الناس عذاباتهم وآلامهم، ويمدّونا بالأمل أن الإنسانيّة - الذين هم عنوانها الأسمى - لا تنتهي مهما تجبّرَ الوحوش الصهاينة وداعموهم من الأراذل.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون