"شتاء غونتر" لخوان مانويل ماركوس: أغنيةٌ لباراغواي

27 نوفمبر 2022
خوان مانويل ماركوس
+ الخط -

"شتاء غونتر" رواية الباراغواياني خوان مانويل ماركوس (1950) هي بحسب المترجم، أو الناشر، العمل الأدبي الأهمّ في باراغواي منذ عشرين عاماً. ليس لنا، نحن الذين لم نطّلع بما يكفي على أدب باراغواي، إلّا أن نُسلّم بذلك. لكنّنا لم نفهم تماماً كيف يواصل المترجم أو الناشر نعت صاحب عمل روائي بهذه الأهمّية، بالمفكّر. كما لا نفهم كيف يبقى عملٌ ما الأهم، خلال عشرين عاماً كاملة.

لكنّ الأكيد أن كاتب الرواية، الذي هجر بلاده خلال المرحلة الديكتاتورية، إلى الولايات المتّحدة، ليعمل أستاذاً في جامعة، وعاد إليها ما إن زالت الديكتاتورية. الأكيد أنّ خوان مانويل ماركوس له شأنه في ثقافة باراغواي اليوم.

الروائي في شتاء "غونتر" (صدرت عن "دار الفارابي" بترجمة طارق عبد الحميد) ليس وحده الحاضر، لكنه موجود بقوّة. الرواية تعجّ بالشخصيات. إذا تبسّطنا أكثر، قلنا إنّها تعجّ بالعلاقات. إنّنا ننتقل فيها، بين أشخاص آتين من مختلف الفئات، كهنة وعسكريّين وضبّاط وعاديّين… وبائعات هوى.

ثمّة ما يُوحي لنا بأنّنا نجد هكذا باراغواي مبسوطة أمامنا. إنّنا نعثر هنا على شخصيات من كلّ نوع، لكن ثمّة ما يوحي بأنّ وراءها، وراء كل واحدة منها، ما يشبه أن يكون تاريخاً، ما يشبه أن يكون نموذجاً. لا نزال هكذا نتنسّم باراغواي، بنيانها التاريخي والاجتماعي، على طول الرواية.

ينتقل الكاتب من السرد التفصيلي إلى الشعر دون إنذار أو مقدّمة

إننا هكذا أمام باراغواي مرسومة ومحكية. يمكن لذلك أن نفهم مكانة الرواية في الأدب الباراغواياني. إنّها، وليس مباشرة ولا من قريب، ترسم باراغواي بل تكاد تغنّيها. باراغواي هكذا تنبني وتتشخّص من علاقات وأصوات وحركات الأشخاص، وهذه تتنوّع وتتعدّد، أو تمرّ لمحاً في اسكتشات وتصاميم، وفي إشارات وسرديات طويلة وقصيرة.

هكذا نستشفّ من القراءة أنّ خوان مانويل ماركوس ليس وحده الذي يعود إلى باراغواي. إنّ روايته هي أيضاً عودة ثانية إليها. الرواية هكذا بشخصياتها العائدة إلى البلاد، تكاد تحمل، من قريب أو بعيد، ليس فقط حكاية الروائي، ولكن أيضاً شوقه إلى بلاده، وحنينه، واستعاداته، بل وتغنّيه بباراغواي.

الصورة
شتاء غونتر - القسم الثقافي

هذا ما يمكن استشفافه من وراء الكلام، الذي لا يجازف بالتمثيل الرومانسي ولا الفيض العاطفي، بل يعمل، عبر وقائعية تكاد تغني وعبر بورتريهات سريعة أو عريضة، إلى عرض حي للمكان الباراغواياني.

من هنا تتعدّد كتابة خوان مانويل ماركوس، بل تخرج من نفسها، وتنتقل بين أنواع أدبية وفكرية. الرواية هكذا تخرج على الرواية، إنها تُضمر في داخلها أشياء أُخرى. قد يكون المفكّر حاضراً هنا، قد يكون المحلّل النفسي أيضاً حاضراً، لكن ما يوجد، وبنوع من البداهة ومن التواصل والانبثاق والحضور الطبيعي والفوري وما يشبه الارتجال. ما يبدو هكذا خلاصة للكلام ونهاية له، هو الشعر.

خوان مانويل ماركوس في الرواية ينتقل، بدون إنذار أو مقدّمة، من السرد التفصيلي إلى الشعر الذي لا يستأذن قبل أن يرِد. إنه يأتي فوق نص سبق، وكأنه استمرار له، لكنه شعر فحسب. شعر يتظاهر بأنه سرد، ويتكلّم كسرد، لكنه يبقى مع ذلك شعراً بل وشعراً خالصاً: "اتركني، ألياف جسد الفتى العاري تثور دون كوابح… انفجار آخر في ساحة ألاكيدنيا… الجدران تصرخ بصفير جارح… ربما لن يبحث أحد عن أجنحة الصيد، ولا عن كيفية ظهور ندى الصباح فجأة، والمذنبات المتسلّلة… إنه الذهول العنيد لكون المرء شاباً… هذا الهواء ليس لك والعالم ليس لأحد… هيّا ضعي توقيعك وانسحبي"، شعر في ثنايا الرواية، شعرٌ يأتي من نفسه فجأة وبدون دعوة.

ليس الشعر الصرف وحده، ولكن أيضاً الشخصيات الشعرية والنهايات الشعرية. "سوليداد" كذلك، حضورٌ في عمق الشعر وقوّته. حياتها وموتها مقتولة، وحياتها التي تتردّد بين الحلم والبَغاء، هي كذلك قصيدة.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون