استمع إلى الملخص
- ينتقد الصايغ التيار الحروفي الذي يحاول دمج الخط العربي في أعمال فنية لا تتناسب معه، مفرقاً بين الحروفية الصوفية والتيار التشكيلي الحديث.
- يتحدث عن أهمية الشفاهية في الثقافة العربية ويعبر عن أسفه لغياب متحف مخصص للخط العربي والدراسات المتعلقة به، مختتماً بالإشارة إلى سلسلة حواريات تبرز تجارب ثقافية عربية.
عند تُخوم الخطّ والشعر يقف الحُروفي والشاعر اللبناني سمير الصايغ (1945). رائدٌ من رُوّاد الحداثة شغلته اللغة في محطّات ومواقف "تُذاق ولا تُحكَى"، لو استعرنا التوصيف من معجم الصوفية التي ترُوق له ويمزجها برؤيته الفنّية. مسيرة ستّة عقود رواها الفنّان خلال لقاء بيروتي انتظم، مؤخّراً، في مكتبة "برزخ" بالتعاون مع "دار النهضة العربية"، وحاوره فيه الشاعر الشابّ محمود وهبة.
ينظر الصايغ إلى المكان بعين قلبه وذاكرته، إلى "الهورس شو" المقهى الذي كان يقع في شارع الحمرا قديماً (في الطابق السُّفلي من مكان انعقاد اللقاء اليوم)، واحتضن بعض لقاءات شعراء مجلّة "شعر" في الستينيات، الذين انضمّ الصايغ إلى حلقتهم لاحقاً، كما وضّح مُفتَتِحاً حديثه. هناك في "الهورس شو" التقى بتشكيليّين مثل بول غورغسيان ورفيق شرف وجان خليفة وشفيق عبّود، وكذلك برُوَّاد المسرح أمثال أنطوان كرباج ونضال الأشقر وريمون جبارة وعصام محفوظ.
"أنا خارجُ حُروفيّتين"، يُحدّد الصايغ موقفه من أفكار فضل الله نعيمي الأسترابادي، مؤسّس "الحركة الحروفية الغالية" (من الغلوّ) التي ظهرت مذهباً فكرياً وسياسياً في القرن الرابع عشر، و"بسبب مواجهتها السياسية مع السُّلطة لم يصل شيءٌ من تراثها بشكل دقيق، وأغلب ما نعرفه عنها هو رواية أعدائها".
أمّا المفهوم الآخر للحُروفيّة الذي عرض له الصايغ، فهو "التيار التشكيلي الذي ظهر أواخر خمسينيات القرن الماضي، في محاولة لاستلهام الحرف العربي من أجل تأسيس مرجعيّة ذات خصوصية حضارية تختلف عن حركات التشكيل الغربي وتياراته، التي لم تعُد مقبولة في مرحلة التحرّر من الاستعمار والاستقلال، ومن هنا جاء انتشار ظاهرة الحُروفيّة في العواصم العربية". لكنّ الصايغ ميّز نفسه عن هذا التيّار، مُنتقداً محاولاته إدخال الخطّ إلى عوالم لا تُشبهه، كما رأى أنّ "هذا النوع من الحروفيّة لا يُمكن له أن يصل إلى مكان بعيد في العمل الفنّي، فضلاً عن أنّها توقّفت عند أول صدمة حدثت للأفكار القومية".
بعدها، انتقل صاحب "مقام القوس وأحوال السَّهم" (مجموعة شعرية، 1981) إلى الحديث عن العلاقة بين الشفاهة والكتابة، فـ"الشفاهية كانت مركزيّة في الشعر الجاهلي وحفظ القرآن، حيث ظلَّ تصوُّر الحروف مُتخيّلاً، وقد تأخَّر ارتباط الحرف بالصورة فيهما إلى مرحلة التدوين"، وهذا ما يُفرّق برأيه "بين الخطّ والكتابة، أي بين البُعد الوظيفي الموجود في الكتب، والجمالي الذي انتشر على الجُدران والأثاث والتطريزات".
يأسف الصايغ، في حديثه، أنّه لا يوجد في عالمنا العربي اليوم متحفٌ متخصّص بالخطّ، ولا دراسات دوريّة تهتمّ بهذا المجال الفنّي، فضلاً عن استهلاك المصادر القديمة، بأخطائها، في أغلب ما يُطبع حاليّاً.
تلخيصٌ لمصائر الحداثة وروّادها في بيروت منذ الستينيات
وبالوصول إلى تجربته الشعرية، لفَت الحُروفيّ اللبناني إلى أنّه ينتمي إلى جيل الحداثة الثاني، بعد جيل مجلّة "شعر": "في مرحلة السبعينيات وفّر أدونيس مناخاً جيّداً لنشر هذه التجارب عبر 'مواقف'، لكنّ الحرب الأهلية في لبنان (1975) قطعت هذا التطوّر المتنامي، وتشتّت شملُ الشعراء؛ أدونيس وعبّاس بيضون ويوسف الخال وأُنسي الحاج وشوقي أبو شقرا، ولم نكَد نصل إلى نهايات الحرب حتى فقدنا الحداثة بتنظيمها وأفكارها، وذوَى الإحساس بالتغيير على حساب الشعور بالهزيمة. الحرب خرّبت كلّ ما سبق ممّا بذلناه من مجهود. وطموحات توحيد العالَم وإعادة قراءته انتهت إلى مساعي توحيد الحمرا والأشرفية الضيّقة".
يشفُّ حديث سمير الصايغ هُنا عن مرارة جيل، وخيبة أمل من مدينة (بيروت) وفكرة آمن بها: "شخصيّاً لم يعُد عندي الكثير من الإيمان باللغة بعد نهاية الحرب (1990)، ولولا علاقتي بالخطّ لمَا عدتُ إلى الشعر مرّة أُخرى. شكلُ الحروف هو ما كان يمنحُ الحيوية للُّغة عندي".
ثم قرأ الصايغ شيئاً "من مُذكّرات جيم": "متى اتّصلتُ انشطرتُ/ أنشطرُ في أوّل الجنّة/ وفي منتصف النجاة/ لكنّي عندما أبلغ نهاية الأمواج أتوحَّد/ وهذا ما يحدثُ لأُختيَّ الخاء والحاء/ في أول الخمر ومنتهى الصباح/ يُغريني غُنج الحاء في آخر الرِّماح/ تلوي الخصر والعُنق حياء/ أهو الوصل؟/ أهو العشق؟/ موتٌ في البدء ووحدةٌ عند الانتهاء" ("مذكّرات الحروف"، 2003).
هذا هو إذاً برزخ ابن عربي، كما يتأوّله الصايغ، "جامعٌ لا فاصل بين عالمَين، يجمع الشعر بالخطّ، وبالعكس... هُنا أيضاً يُمكن القول إنّ الشعر أخرجني من حدود تلك الحروفيّتين اللتين ذكرتُهما بداية حديثي".
يُشار إلى أنّ اللقاء يندرج ضمن سلسلة حواريّات شهرية يُنظّمها الشاعران محمود وهبة وحسن المقداد من "دار النهضة العربية"، وتُضيء تجارب عربية ولبنانية تركت أثرها في الشعر والثقافة والتشكيل والمسرح، وقد استضافت في الأشهُر الماضية كُلّاً من الشعراء: عبّاس بيضون وجودت فخر الدين وأنطوان أبو زيد. ومن المُقرّر أن تكون الحواريّة القادمة، في الثالث عشر من الشهر المُقبل، تحيّة لمناسبة الذكرى السنوية الثانية لرحيل الشاعر الجنوبي حسن عبد الله.