في عام 1987، أصدر زيغمونت باومان كتابه "أهل التشريع وأهل التأويل.. في الحداثة وما بعد الحداثة والمفكرين"، الذي يناقش فيه تحوّلات المثقف في فترة حرجة شهدت تراجع الأيديولوجيات الكبرى وهيمنة لوعي الفرد ونسبية المعرفة وتعدديتها وغيرها من المفاهيم التي بدأ طرحها في النصف الثاني من القرن الماضي.
ورأى عالم الاجتماع البولندي (1925 – 2017) أن مهام المثقف كانت تدور سابقاً حول استعادة المركزية المجتمعية والاهتمامات العالمية التي ارتبطت بإنتاج المعرفة ونشرها في عصر التنوير، حيث كانت الكلمة تشير إلى روائيين وشعراء وفنانين وصحافيين وعلماء وغيرهم من الشخصيات العامة ممن شعروا بمسؤوليتهم الأخلاقية، وحقهم الجمعي، في التدخل المباشر في العملية السياسية من خلال التأثير في عقول الأمة وتشكيل أفعال قادتها السياسيين.
يرى عالم الاجتماع البولندي أن المفكرين أصبحوا مجرد وسطاء في التواصل بين الجماعات وتقاليدها
عن "المركز القومي للترجمة"، صدرت حديثاً النسخة العربية من كتاب باومان بترجمة أستاذ النقد الثقافي والباحث المصري حجاج أبو جبر، والذي يتضمّن اثني عشر باباً تتناول مواضيع اليوتوبيا في الفسلفة واكتشاف الثقافة وبناء الأيديولوجيا وصولاً إلى سقوط المفكر كما ظهر في عصر التنوير.
ويشير الكتاب إلى أن الاستراتيجية الحديثة للعمل الفكري تقترب من استراتيجية أهل التشريع، وهي تتمثّل في وضع مقولات وقواعد تضمن الوصول إلى الحقيقة، والحكم الأخلاقي الصحيح، والذوق الفني السليم. وقد سادت هذه الاستراتيجية في ظروف تاريخية شهدت نضالاً فكرياً في سبيل إرساء النظام الاجتماعي الأمثل وأسس التعليم والثقافة والإنتاج.
ويوضح أن استراتيجية ما بعد الحداثة هي أقرب إلى استراتيجية أهل التأويل، وهي تتمثل في ترجمة مقولات تقليد مجتمعي محلي، بحيث يمكن فهمها داخل نظام المعرفة القائم على تقليد آخر، دون المفاضلة بين التقاليد القائمة، بعدما صار المفكرون مجرد وسطاء في التواصل بين الجماعات وتقاليدها، وتسود هذه الاستراتيجية في ظروف تحتفي بالتعددية والنسبية والنزعة الاستهلاكية.
ويرى باومان أن ما بعد الحداثة هي حالة ذهنية، ووعي انعكاسي ذاتي للمثقفين يعبّرون خلالها عن خطابات جديدة ويتبنون مهام جديدة، وأن هذا التغيير ينسحب على مجالات عديدة من الحياة: الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، حيث النسبية هي شرط مسبق للمعرفة، حيث المجتمع والتحليل الاجتماعي يذوبان في حقائق متعددة، ولم تعد الدولة مهتمة بالمجتمع كمشروع سياسي، وأصبحت أفكار عصر التنوير حول الموضوعية العلمية والتقدم والتحرر موضع تساؤل.