رحلة راهب من نجران: أحوال الصين في القرن العاشر الميلادي

03 يوليو 2021
رسم لكنيسة في أحد شوارع بكين في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

كشفت لنا رحلة الراهب النجراني، الذي التقاه في بغداد المؤرخ العباسي ابن النديم صاحب "الفهرست"، حدثاً مهماً وقع للكنيسة النسطورية في الصين في نهايات القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، على يد البوذيين، إذ كان هذا الراهب شاهد عيان على الاضطهاد الكبير الذي تعرض له مسيحيو الصين في تلك الحقبة وأنهى وجودهم هناك لأكثر من قرنين من الزمان.

دخلت المسيحية إلى الصين في القرن السابع الميلادي، وفق نقش كبير عثر عليه في سيانفو عاصمة سلالة تانغ الملكية، وسط الصين، مدون على مسلة سوداء باللغتين الصينية والسريانية يذكر أن مبعوثين سريان نساطرة بدأوا التبشير بالمسيحية في عهد الجاثليق السرياني يشوعياب الثاني (628-643).

وبحسب هذا النقش الذي ترجمه الباحث بالتاريخ السرياني الدكتور أسعد صوما أسعد، فقد حمل بشارة الإنجيل شخص يدعى ألوبين إلى تشانغم، وأن الإمبراطور تاي تسونغ (627-650 م)، أرسل وزيره دوكفانغ هسوان لينغ مع حرس الشرف لاستقبال الزائر الكريم. ومن ثم استقبله الإمبراطور شخصياً عام 635 م، وبناء على طلب الإمبراطور فقد ترجم الإنجيل إلى اللغة الصينية. وفي العام 638 م أصدر الإمبراطور منشوراً ملكياً بالسماح بنشر الدين المسيحي في الصين. وبعد ثلاث سنوات صدر مرسوم يقضي ببناء دير لهذا الرجل المقدس "ألوبين" ولعشرين راهباً معه.

وبحسب الباحث أسعد صوما، فإن أول جملة في هذا النقش تقول إنه دُوِّن من قِبل الراهب تشينغ تشينغ من الدير السرياني. ثم تتبعها الجملة السريانية "آدم قس ومطران صينستان". وفي أسفل الوجه الأمامي من النصب وتحت الكتابة الصينية هناك كتابة سريانية في عواميد تقرأ من اليسار إلى اليمين، وهي: "في سنة 1092 يونانية (تعادل سنة 780/781 ميلادية)، أقام سيدي يزدبوزيد قس ومطران العاصمة كومدان، ابن المرحوم القس ميليس من مدينة بلخ في طخارستان، وشيّد هذا النصب الحجري الذي دوّنت فيه سيرة مخلصنا وكرازة آبائنا إلى الملوك الصينيين".


مبعوث كنسي

وقد انتعشت الكنيسة السريانية النسطورية بعد ذلك لمدة قرنين من الزمان تقريباً إلى أن أصدر الإمبراطور ووتسونغ (840-846) مرسوماً ملكياً يقضي بوجوب عودة الرهبان والقساوسة إلى الحياة المدنية، وطرد الرهبان الأجانب من الصين. ومع ذلك لم تختف المسيحية من الصين، فقد بقيت موجودة بشكل شبه سري إلى أن أرسل البطريرك السرياني النسطوري عبد يشوع الأول الراهب النجراني إلى الصين ليعود بعد سنوات قليلة بعدما وجد أن المجتمع المسيحي والكنائس والأديرة في منطقة حكم سلالة سونغ قد دمرت بالكامل.

يقول ابن النديم عند حديثه عن عقائد أهل الصين، إن مصدره هو راهب نجراني، نسبة إلى مدينة نجران (تقع حالياً في جنوبي المملكة العربية السعودية)، عاد من بلد الصين في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة للهجرة/987م. بعدما أرسله جاثليق الكنيسة النسطورية منذ نحو سبع سنين إلى بلد الصين، وأرسل معه خمسة رجال من النصارى، ممن يقوم بأمر الدين، فعاد من الجماعة هذا الراهب وآخر بعد ست سنين.

وقد وصف ابن النديم محدثه الذي التقاه بدار الروم وراء البيعة في بغداد بأنه كان "رجلاً شاباً حسن الهيئة، قليل الكلام إلا أن يُسأل، فسألته عما خرج فيه وما السبب في إبطائه طول هذه المدة، فذكر أمورا لحقته في الطريق عاقته. وأن النصارى الذين كانوا ببلد الصين، فنيوا وهلكوا بأسباب، وأنه لم يبق في جميع البلاد إلا رجل واحد، وذكر أنه كان لهم ثمة بيعة خربت، قال: فلما لم أر من أقوم لهم بدينهم، فعدت في أقل من المدة التي مضيت فيها".


أوضاع مرتبكة

ويذهب باحثون إلى أن نشاط الكنيسة النسطورية في الصين مرتبط بطريق الحرير، حيث يعزى إليهم نقل دودة القز إلى بلاد الشام في عهد معاوية بن أبي سفيان، وهو ما كسر احتكار الصينيين لهذه الصناعة التي كانت تدر عليهم عائدات ضخمة طوال أكثر من ألف عام سابقة لذلك. وقد ازدهرت الكنيسة النسطورية في الصين في عهد الإمبراطور كاوتسونغ (650-683)، فأصبحت هناك كنائس في جميع مراكز الأقاليم الصينية، وقبل نهاية القرن السابع الميلادي كانت المسيحية النسطورية قد انتشرت في عشر مقاطعات صينية، حتى أنها بدأت بمنافسة البوذية، الأمر الذي دعا الإمبراطورة وو تسيتيان (690-705)، إلى البدء بحملة اضطهاد ضد المسيحيين. ولكن وبعد وفاة هذه الإمبراطورة، عادت الكنيسة النسطورية للانتعاش بفضل تعاطف عدد كبير من القادة الصينيين معها، أبرزهم القائد العسكري غوو تسيي، الذي تبرع بمبالغ كبيرة لترميم وبناء الكنائس. وفي هذه المرحلة صدر مرسوم إمبراطوري صيني بتغيير اسم الكنيسة النسطورية من الكنيسة الفارسية إلى الكنيسة السريانية، وذلك أن التسمية القديمة كانت إبان الحكم الفارسي في بلاد العراق والجزيرة، موطن هذه الكنيسة التاريخي. ويخبرنا الأسقف توما المرجي بأن الجاثليق طيمثاوس الأول (780-820)، رسم مطراناً للصين اسمه داويد.


فساد الطريق البحري

وينقل لنا ابن النديم جانباً من مرويات سمعها من الراهب النجراني الذي لم يذكر اسمه، ومن ذلك حديثه عن أن "المسافات في البحر قد اختلفت، وفسد أمر البحر وقل أهل الخبرة به، وظهر فيه آفات وخوف وجزائر قطعت المسافات، إلا أن الذي يسلم على الغرر يسلك".

ومن غير المعروف سياق حديث الراهب النجراني حول السفر بالبحر، فالشائع أن السفر من بغداد يكون في تلك الأزمان عن طريق البر، عبر طريق الحرير الذي يخترق وسط آسيا وصولاً إلى الصين، ولكن ربما سلك هذا الراهب طريق البحر عبر الخليج العربي وصولاً إلى الهند، حيث كانت الكنيسة النسطورية منتشرة هناك ولها بيع ورعية تذكرها كتب التاريخ الكنسي، وصولا إلى هضبة التيبت، حيث انتشرت الكنائس والأديرة النسطورية منذ القرن الثامن الميلادي. وما يدعم هذا الاحتمال أن السفر، فعلاً، في الخليج العربي والمحيط الهندي في ذلك الوقت كان ينطوي على مخاطر جمة نتيجة ضعف الخلافة العباسية وتسلط القرامطة على إقليم البحرين من الخليج، وصعود حكام الأقاليم البعيدة واستقلالهم بأمر بلدانهم، حتى وإن بقي بعضهم تابعاً، ولو اسمياً للدولة العباسية ويدعو للخليفة على المنابر.


أحزمة من قرن الكركدن

ينقل ابن النديم عن الراهب النجراني قوله إن العاصمة الصينية التي يقيم فيها الملك تدعى طاجونه، وكان هناك ملكان مات أحدهما وبقي الآخر.

ويتحدث الراهب عن تقليد غريب لدى الدخول على الملك الصيني يتمثل بارتداء نوع من الأحزمة المصنوعة من قرن حيوان يسمى البشان. ويقول إن هذا البشان هو "القطع التي عليها الصور خلقة في القرن". ويبدو هذا الحديث غامضاً مبتسراً، والغالب أن ابن النديم اختزله إلى أبعد حد، على اعتبار أن الجغرافي ابن خرداذبة والرحالة أبو زيد السيرافي سبق أن شرحا شرحاً مفصلاً كل شيء حول هذا الحزام الذي يذكره الراهب. يقول السيرافي: "البشان المعلم، وهو الكركدن له في مقدم جبهته قرن واحد، وفي قرنه علامة، صورة خلقة كصورة الإنسان في حكايته، القرن كلّه أسود والصورة بيضاء في وسطه، وهذا الكركدن دون الفيل في الخلقة إلى السّواد ما هو، ويشبه الجاموس، قوي ليس كقوّته شيء من الحيوان، وليس له مفصل في ركبته ولا في يده، وهو من لدن رجله إلى إبطه قطعة واحدة، والفيل يهرب منه، وهو يجتر كما تجتر البقر والإبل، ولحمه حلال قد أكلناه، وهو في هذه المملكة كثير في غياضهم وهو (أيضاً) في سائر بلاد الهند، غير أن قرون هذا أجود، فربما كان في القرن صورة رجل، وصورة طاووس، وصورة سمكة، وسائر الصور، وأهل الصين يتخذون منها المناطق (الأحزمة)، وتبلغ المنطقة ببلاد الصين ألفي دينار وثلاثة آلاف وأكثر، على قدر حسن الصورة، وهذا كله يشترى من بلاد دهرم بالودع وهو عين البلاد".

ويقول الراهب النجراني إن ثمن الأوقية منه تعادل خمسة بمقياس المن من الذهب، وهي قيمة كبيرة جداً تقارب ما ذكره السيرافي، ولكن الراهب يعود ليقول إن الملك الباقي قد غير هذه العادة، وأمر بالدخول عليه بأحزمة الذهب وما شابهه، فهبطت أسعار أحزمة البشان حتى صارت الأوقية منه تعادل أوقية الذهب وأقل.

ويقول الراهب النجراني إنه سأل عن أمر هذا القرن، فذكر له حكماء الصين وعلماؤها أن الحيوان الذي هذا قرنه إذا وضع الولد حصل في قرنه صورة أي شيء نظر إليه أولا عند خروجه من الرحم، وأكثر ما يصاب فيه الذباب والسمك.
وعندما قال له ابن النديم إن الحيوان صاحب القرن هذا يسمى الكركدن، رد عليه الراهب: "ليس كما يقال، هو دابة من دواب تيك البلاد، وقيل لي إنه دابة من بلد الهند وهذا هو الصحيح".


المعبد الرئيس

حول نظام الحكم في المدن الصينية، يقول الراهب النجراني: "في كل مدينة من مدن الصين أربعة أمراء، أحدهم يقال له لانجون، ومعناه أمير الأمراء. والآخر اسمه صراصبة، ومعناه رأس الجيش". ثم يحدثنا عن المدينة التي يقع فيها المعبد الرئيس في الصين، فيقول إنه في مدينة بغران الواقعة في أرض خانقون (هي هانغتشو الحالية)، في الموضع الذي فيه الصنم الأعظم، وهو صورة البغبور". وفي شرحه لمعنى البغبور بلغة الصين، يقول: "هو ابن السماء أي نزل من السماء".

ويضيف رداً على سؤال ابن النديم حول مذاهبهم، فيقول إن أكثرهم ثنوية، أي يعبدون إلهين واحد للخير وآخر للشر، وأقلهم سمنية أي بوذية، والسمنية أو الشامانية، بحسب قول أبي الريحان البيروني في كتابه: "تحقيق ما للهند"، هم أصحاب البُدّ، أي البوذيون.

ويقول الراهب النجراني إن عامة الصينيين يعبدون الملك ويعظمون صورته، أي تمثاله، ويضيف أن لهذا التمثال معبد عظيم في مدينة بغران يكون نحو عشرة آلاف ذراع في مثله، مبني بأنواع الصخر والآجر والذهب والفضة. ويضيف: "قبل الوصول إلى بغران، يشاهد القاصد إليها أنواعاً من الأصنام، والتماثيل، والصور، والتخيلات التي تبهر عقل من لا يعرف كيف هي، وأي شيء موضوعها".

وينقل ابن النديم عنه تعليقه على حالة الامتثال لعبادة الملك بقوله: "والله يا أبا الفرج لو عظًّم أحدنا، من النصارى واليهود والمسلمين، الله جل اسمه تعظيم هؤلاء القوم لصورة ملكهم فضلاً عن شخص نفسه، لأنزل الله له القطر، فإنهم إذا شاهدوها، وقع عليهم الأفكل والرعدة والجزع، حتى ربما فقد الواحد عقله أياماً". ويقول ابن النديم رداً على الراهب: "ذلك لاستحواذ الشيطان على بلدهم وعلى جملتهم يستغويهم ليضلهم عن سبيل الله". فقال له الراهب: "يوشك أن يكون ذلك".


شاهد عيان

كان الراهب النجراني شاهد العيان الوحيد على نهاية الحقبة الأولى من تاريخ الكنيسة النسطورية في الصين، والتي عادت بقوة بعد ذلك بأكثر من قرنين ونصف القرن على يد القبائل المغولية التي كان يدين بعضها بالمسيحية النسطورية، وخاصة في فترة سلالة يوان، حين نقل قوبلاي خان عاصمته إلى خنبلق (بكين الحالية)، فتأسست فيها عام 1248 أبرشية للكنيسة النسطورية، وعادت الأسماء المسيحية لتظهر مجددًا في الحوليات الصينية. وقد أصبحت بكين مطرانية نسطورية عام 1275، وهي الفترة نفسها التي قدم منها راهبان منغوليان إلى بغداد أحدهما أصبح جاثليق الكنيسة النسطورية باسم يهبالاها الثالث، والثاني هو الربان صوما مبعوثاً عاماً للكنيسة، وهو الذي كانت رحلته إلى أوروبا موضوع مقالتنا السابقة.

المساهمون