لم يُكتب في تاريخ الرحلات العربية وغير العربية إلى فلسطين أجمل وأكمل ممّا كتب الرحّالة المقدسي البشاري عن بيت المقدس وباقي المدن الفلسطينية، فنصُّه الاستثنائي عن إقليم الشام، المتضمَّن في كتابه الشهير "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، يُعَدُّ وثيقة جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية عن حال بلاد الشام عموماً وفلسطين خصوصاً، في مرحلة غاية في الحساسية تعاصر تحوُّل بلاد الشام من الدعاء في المساجد للخليفة العباسي، إلى الدعاء للخليفة الفاطمي.
وُلد الرحّالة والجغرافي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء الشامي المقدسي، المعروف بالبشاري، في القدس في عام 335 للهجرة/ 946 للميلاد، ورحل عام 380 هـ/ 990 م، أي أنه لم يعش أكثر من 44 عاماً، طاف خلالها معظم أرجاء المشرق الإسلامي آنذاك. وكان جدُّه مهندساً بارعاً، كما ذكر في كتابه، شارك في بناء ميناء عكا في عهد أحمد بن طولون 270 هـ/ 883 م.
حصل المقدسي على ثقافة نوعية، إذ تعلّم في صغره القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ثم ارتحل إلى العراق وتفقّه على مذهب أبي حنيفة النعمان على يد القاضي أبي الحسن القزويني، وبرع في النحو واللغة ونظم الشعر.
بدأ المقدسي رحلته من مدينة القدس إلى الحجاز في بداية عام 356 هـ/ 966 م لغاية الحج، ثم طاف العراق والجزيرة والشام ومصر والمغرب وزار أقطار العجم، وبدأها بإقليم المشرق ثم الديلم والرحاب والجبال وخوزستان وفارس وكرمان والسند، ويبدو أنه انتهى من رحلته في حدود عام 375 هـ/ 985 م، استناداً إلى ما ذكره في متن الكتاب من أنه أنهى تأليفه في مدينة شيراز عاصمة إقليم فارس، بعد أن أتمّ الأربعين من عمره.
وتحتلّ القدس خصوصاً، وفلسطين عموماً، مكاناً أثيراً في رحلة المقدسي، فهي تستأثر بالغالبية العظمى من حديثه عن إقليم الشام. ويظهر حبّ المقدسي لفلسطين وبيت المقدس في الكثير من مواقف رحلته، التي شملت الشرق الإسلامي برمّته، ولعل مردّ ذلك إلى انتعاش جُندَيْ فلسطين والأردن في ذلك الزمن، وتراجُع جندي قنسرين وحمص نتيجة تعرّضهما للخطر البيزنطي الناهض ذلك الزمن. أما جند دمشق فيوليه المقدسي عناية لا بأس بها، لكنها لا تضارع عنايته بجُند فلسطين، ويمكن اعتبار المقدسي البشاري أول من كتب عن التراث الشعبي الفلسطيني.
عقائد وأديان
يقول المقدسي عن إقليم الشام عموماً وفلسطين خصوصاً: "قليل العلماء، كثير الذمّة والمجذمين، ولا خطر فيه للمذكرين، والسامرة فيه من فلسطين إلى طبرية، ولا تجد فيه مجوسياً ولا صابئاً. مذاهبهم مستقيمة أهل جماعة وسنة، وأهل طبرية ونصف نابلس وقَدَس وأكثر عمّان شيعة، ولا ماء فيه لمعتزلي إنما هم في خِفية. وببيت المقدس خلق من الكرامية، لهم خوانق ومجالس، ولا ترى به مالكياً ولا داودياً وللأوزاعية مجلس بـ'جامع دمشق'، والعمل كان فيه على مذهب أصحاب الحديث والفقهاء شفعوية، وأقلّ قصبة أو بلد ليس فيه حنفي، وربما كانت القضاة منهم. واليوم أكثر العمل على مذاهب الفاطمي، ونحن نذكرها مع رسومهم في إقليم المغرب إن شاء الله تعالى".
تجارة ومحاصيل
ويحدّثنا المقدسي عن تجارات إقليم الشام فيقول: "التجارات به مفيدة، يرتفع من فلسطين الزيت والقطين والزبيب والخرنوب والملاحم والصابون والفوط. ومن بيت المقدس الجبن والقطن وزبيب العينوني والدوري غاية، والتفاح وقضم قريش، الذي لا نظير له، والمرايا وقدور القناديل والإبر. ومن أريحاء نيل غاية، ومن صغر وبيسان النيل والتمور، ومن عمان الحبوب والخرفان والعسل، ومن طبرية شقاق المطارح والكاغد والبز، ومن قدس ثياب المنيرة والبلعيسية والحبال، ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات، ومن مآب قلوب اللوز، ومن بيسان الرز، ومن دمشق المعصور والبلعيسي وديباج ودهن بنفسج، دون الصفريات والكاغد والجوز والقطين والزبيب. ومن حلب القطن والثياب والأشنان والمغرة، ومن بعلبك الملابن. ولا نظير لقطين وزيت الأنفاق، وحواري وميازر الرملة، ولا لمعنقة وقضم قريش وعينوني ودوري وترياق وترذوغ وسبح بيت المقدس".
فواكه وخضار
ويتابع واصفاً خيرات ذلك الزمن: "اعلم أنه قد اجتمع في بكورة فلسطين ستة وثلاثون شيئاً لا تجتمع في غيرها. فالسبعة الأُولى لا توجد إلّا بها، والسبعة الثانية غريبة في غيرها، والاثنان والعشرون لا تجتمع إلّا بها. وقد يجتمع أكثرها في غيرها مثل قضم قريش، والمعنقة، والعينوني، والدوري، وإنجاص الكافوري، وتين السباعي والدمشقي، والقلقاس، والجميز، والخرنوب، والعكوب، والعناب، وقصب السكر، والتفاح الشامي، والرطب، والزيتون، والأترج، والنيل، والراسن، والنارنج، واللفاح، والنبق، والجوز، واللوز، والهليون، والموز، والسماق، والكرنب، والكمأة، والترمس، والطري، والثلج، ولبن الجواميس، والشهد، وعنب العاصمي، والتين التمري. وأما القنبيط فقد يُرى مثله، غير أن له طعماً آخر، وقد ترى الخس، غير أنه في جملة البقل، إلّا بالأهواز فإنه غاية، ويفرد عن البقل أيضاً بالبصرة".
مكاييل وأوزان
ولا ينسى المقدسي أن يعدّد المكاييل والأوزان التي كانت سائدة في زمنه، حيث يقول: "أما المكاييل، فلأهل الرملة القفيز والويبة والمكوك والكيلجة، فالكيلجة نحو صاع ونصف، والمكوك ثلاث كيالج، والويبة مكوكان، والقفيز أربع ويبات. وينفرد أهل إيليا (مدينة القدس) بالمدى وهو ثلثا القفيز، وبالقَبِّ وهو ربع المدى، ولا يستعمل المكوك إلّا في كيل السلطان. ومدى عمان ست كيالج، وقفيزهم نصف كيلجة، وبه يبيعون الزبيب والقطين. وقفيز صور مدى إيليا، وكيلجتهم صاع. والأرطال من حمص إلى الجفار (مدن شمالي سيناء) ستمائة، غير أنه يتفاوت فأملاه رطل عكا، وأزله الدمشقي، وأوقيتهم من خمسين إلى بضع وأربعين. وكل رطل اثنا عشر أوقية، ورطل قنسرين ثلثا هذا. والسنُج متقاربة: الدرهم ستون حبة، وحبتهم شعيرة واحدة، والدانق عشر حبات، والدينار أربعة وعشرون قيراطاً، والقيراط ثلاث شعيرات ونصف".
طقوس وأعياد
أمّا طقوس المذاهب والأديان المختلفة فهي كما يلي: "يقدون القناديل في مساجدهم على الدوام، يعلّقونها بالسلاسل مثل مكة، وفي كل قصبة بيت مالٍ بالجامع معلّق على أعمدة، وبين المغطّى والصحن أبواب إلا أريحاء. ولا ترى الحصى إلا في صحن جامع طبرية والمناير (المآذن) مربّعة، وأوساط سقوف المغطّى مجملة وعلى أبواب الجوامع، وفي الأسواق مطاهر. ويجلسون بين كلّ سلامين من التراويح، وبعض يوترون بواحدة، وكان وترهم في القديم ثلاثاً، وفي أيامي أمر أبو إسحاق المرزوي حتى قطعوه بإيليا، وإذا قام إلى كلّ ترويحة نادى منادى الصلاة رحمكم الله. ويصلون بإيليا ست ترويحات، والمذكّرون به قصاص، ولأصحاب أبي حنيفة بالمسجد الأقصى مجلس ذِكر يقرؤون في دفتر، وكذلك الكرامية في خوانقهم. وكان الحُرّاس يهلّلون بعد صلاة الجمعة، ويجلس الفقهاء بين الصلاتين وبين العشاءَين، وللقُراء مجالس في الجوامع".
ويتابع: "من أعياد النصارى التي يتعارفها المسلمون ويقدّرون بها الفصول: الفصح وقت النيروز، والعنصرة وقت الحرّ، والميلاد وقت البرد، وعيد بربارة وقت الأمطار. ومن أمثال الناس 'إذا جاء عيد بربارة فليتّخذ البناء زماره'؛ يعني فليُجلس في البيت. والقلندس، ومن أمثالهم 'إذا جاء القلندس فتدفّأ واحتبس'، وعيد الصليب وقت قطاف العنب، وعيد لدى وقت الزرع".
ويشير إلى أن الشهور المستخدمة في بلاد الشام هي الشهور الرومية، وهذا خطأ لأنها شهور سريانية وهي "تشرين الأول، والثاني، كانون الأول، والثاني، شباط، آذار، نيسان، أيار، حزيران، تموز، آب، أيلول". ويلفت النظر إلى أن "أكثر الجهابذة والصباغين والصيارفة والدباغين بهذا الإقليم يهود، وأكثر الأطباء والكتبة نصارى".
ألبسة وأطعمة
ويمتدح المقدسي عناية أهل الشام بالألبسة، عالمهم وجاهلهم، إذ يقول: "لهم تجمل، يلبسون الأردية كلّ عالم وجاهل، ولا يتخفّفون في الصيف، إنما هي نعال الطاق". ويقول إن "قبورهم مسنّمة، ويمشون خلف الجنائز، ويُسلُّون الميت، ويخرجون إلى المقابر لختم القرآن ثلاثة أيام إذا مات ميت، ويكشفون المماطر، ولا يقورون الطيالسة، ولا حلة البزازين". ويشير إلى أن لباس القرويين برستاق إيليا ونابلس كساء واحد فحسب بلا سراويل.
ويؤكّد أنّ لأهل المدن أفرنة للخبز بينما القرويّون لهم الطوابين، ويشرح ذلك بقوله: "تنور في الأرض صغير، قد فرش بالحصى، فيوقد الزبل حوله وفوقه، فإذا احمرّ طُرحت الأرغفة على الحصى". ويتابع واصفاً الأطباق الشعبية في الأسواق: "به طبّاخون للعدس والبيسار، ويَقلون الفول المنبوت بالزيت ويسلقونه ويباع مع الزيتون، ويملّحون الترمس ويكثرون أكله. ويصنعون من الخرنوب ناطفاً يسمونه القبيط، ويسمّون ما يتّخذون من السكّر ناطفاً ويصنعون زلابيةً في الشتاء من العجين غير مشبّكة"، ويشيد بعسل الزعتر الذي في إيليا (القدس) وجبل عاملة.
معادن وحجارة
ويُعرِّج المقدسي على ثروات إقليم الشام الطبيعية فيقول إن "به معادن حديد في جبال بيروت، وبحلب مُغرة جيدة، وبعمان دونها، وبه جبال حمر يسمّى ترابها السمقة، وهو تراب رخو، وجبال بيض تسمّى الحوارة، فيه أدنى صلابة تُبيّض به السقوف وتُطيّن به السطوح. وبفلسطين مقاطع حجارة بيض، ومعدن للرخام ببيت جبريل، وبالأغوار معادن كبريت وغيره. ويرتفع من البحيرة المقلوبة (البحر الميت) ملحٌ منثور".
مياه وأنهار
أمّا مياه هذا الإقليم، فيقول إنها "جيدة إلا ماء بانياس (الجولان) فإنه يُطلق، وماء صور يحصر، وماء بيسان ثقيل، ونعوذ بالله من صغر، وماء بيت الرام رديء، ولا ترى أخف من ماء أريحاء، وماء الرملة مري، وماء نابلس خشن، وفي ماء دمشق وإيليا أدنى خشونة، وفي الهواء أدنى يبوسة". ويضيف: "فيه عدة من الأنهار تقلب في بحر الروم، إلا بردى فإنه يشقّ أسفل قصبة دمشق فيسقي الكورة، وقد شقّ منه شِعب يتدور في أعلى القصبة، ثم ينقسم قسمين، بعض يتبحّر نحو البادية، وبعض ينحدر فيلقى نهر الأردن. ونهر الأردن ينحدر من خلف بانياس، فيتبحّر بإزاء قدس، ثم ينحدر إلى طبرية ويشقّ البحيرة، ثم ينحدر في الأغوار إلى البحيرة المقلوبة (البحر الميت)، وهي مالحة جداً وحشة مقلوبة منتنة، فيها جبال وليس فيها أمواج كثيرة". ويلفت المقدسي النظر إلى أن المسلمين يراعون وضع جزيرة قبرص الواقعة مقابل صور "يقال إنها اثنا عشر يوماً كلها مدن عامرة، وللمسلمين فيها رفق وسعة لكثرة ما يحمل منها من الخيرات والثياب والآلات وهي لمن غلب. المسافة إليها في البحر إقلاع يوم وليلة، ثم إلى بلد الروم مثل ذلك".
عجائب
ويعدّد رحّالتنا جملة المواقع والمظاهر الطبيعية العجيبة في بلاد الشام جرياً على جغرافيي ذلك الزمن فيقول: "من العجائب بإيليا مغارة بظاهر البلد عظيمة، سمعت بعض العلماء وقرأت في بعض الكتب أنها تنفذ إلى قوم موسى، وما صحّ لي ذلك. وإنها مقاطع للحجارة، وفيها طُرق يُدخل فيها بالمشاعل. وبين فلسطين والحجاز الحجارة التي رمى بها قوم لوط على طريق الحجّاج مخطّطة صغار وكبار. وبطبرية عين تغلي تعم أكثر حمّامات البلد، وقد شق إلى كل حمّام منها نهرٌ فبخاره يحمي البيوت فلا يحتاج إلى وقيد. وفي البيت الأول ماء بارد يمزج مقدار ما يتطهّرون به ومطاهرهم من ذلك الماء".
ويتابع: "في هذه الكورة ماء مسخّن يسمّى الحمَّة، حارٌّ من اغتسل فيه ثلاثة أيام ثم اغتسل في ماءٍ آخر بارد وبه جرب أو قروح أو ناسور أو أي علة يكون بُرْءاً بإذن الله. وسمعت الطبرانيين يذكرون أنه كان عليها بما يدور بيوت، كل بيت لعِلّة فكل من به تلك العلّة واغتسل فيه برئ إلى وقت أرسطاطليس، ثم سأل ملك ذلك الزمان هدم هذه البيوت لئلّا يستغنوا عن الأطباء. وصحت لي هذه الحكاية لأن كل من دخله من أصحاب العلل وجب أن يخوض الماء كله ليوافق موضع شفائه".
ويقول إن بحيرة صغر (أي البحر الميت) أعجوبة يقلب فيها نهر الأردن، ونهر الشراة فلا يحيل فيها ويقال إنها لا تغرق سريعاً، ومن احتقن بمائها أشفي من عللٍ كثيرة، ولها موسم في شهر آب يذهب إليها الأحداث وأصحاب العلل. وفي جبال الشراة أيضاً حمّة".
ويرصد المقدسي ظاهرة تكثُّف الندى في فلسطين فيقول: "ينزل على فلسطين في كل ليلةٍ الندى في الصيف إذا هبّت الجنوب حتى يجري منه مزاريب المسجد الأقصى" ويشير إلى حمّام أبو رباح قرب حمص والذي جعل عليه طلسم ضد العقارب. ويعتبر أنّ بعلبك وتدمر، وكذلك قبة الصخرة، وجامع دمشق، وميناء صور وعكا كلها من العجائب.
تضاريس
ويصف تضاريس الشام بقوله إنه يتكوّن من أربعة صفوف، "فالصف الأول يلي بحر الروم وهو السهل، رمال منعقدة ممتزجة يقع فيها من البلدان الرملة وجميع مدن السواحل، والصف الثاني الجبل، مشجر ذو قرى وعيون ومزارع يقع فيه من البلدان بيت جبريل وإيليا ونابلس واللجون وكابل وقدس والبقاع وأنطاكية، والصف الثالث الأغوار ذات قرى وأنهار ونخيل ومزارع ونيل، يقع فيه من البلدان ويلة وتبوك وصغر وأريحاء وبيسان وطبرية وبانياس، والصف الرابع سيف البادية، وهي جبال عالية باردة معتدلة مع البادية، ذات قرى وعيون وأشجار. يقع فيه من البلدان مآب وعمان وأذرعات ودمشق وحمص وتدمر وحلب". ويقول إن الجبال الفاضلة (المقدّسة) مثل جبل زيتا وصديقا ولبنان واللكام تقع في الصف الثاني، ويختم بالقول إن إيليا هي "سرة الأرض المقدّسة في الجبال المطلّة على الساحل".