أهوال في طريق الحج.. رحلة القس السرياني إدي السبريني إلى القدس عام 1492

11 ديسمبر 2021
رسم للطريق إلى القدس في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

تحفل التواريخ السريانية بكثير من أخبار الرحلات التي كان يقوم بها البطاركة والقساوسة لأغراض رعوية ودينية، وهي مصادر غاية في الأهمية؛ لمعرفة وجهة النظر الأخرى من تاريخ المشرق، حيث تغلب على المصادر التقليدية رؤية واحدة تمثل السلطة السياسية، الساعية لتوسيع نفوذها بمعزل عن أي اعتبارات أخرى. وإن كانت رحلات البطريرك التلمحري تتربع على قمة هذه الرحلات، أسلوباً وأهمية، إلا أنها ليست الوحيدة في مجالها، فهناك بطاركة وقساوسة آخرون دونوا رحلاتهم وبعض أخبار زمانهم، فقدموا بذلك خدمات جُلَّى يمكن أن تساهم في سد بعض ثغرات الحقب التاريخية المجهولة، وخصوصاً في الأقاليم البعيدة عن العواصم.

من أصحاب الرحلات السريانية القس إدي السبريني الذي زار القدس وبعض مناطق بلاد الشام في العام 1492، وهو العام الذي تغير فيه مجرى التاريخ باكتشاف قارة أميركا على يد كريستوف كولومبوس، وسقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، وبدء عصر النهضة في أوروبا، بعد قرون طويلة من ظلام القرون الوسطى. 


نكبة تيمورلنك

والقس السبريني المنتسب لبلدة باسبرينا، إحدى بلدات منطقة طور عابدبن السريانية في الجنوب الشرقي من تركيا الحالية، أراد أن يخبرنا ببعض الأحداث التاريخية التي عصفت بمنطقته في تلك المرحلة الانتقالية الخطيرة، قبل أن يسرد وقائع رحلته، فبدأ بنكبة تيمورلنك حيث يقول: "عندما وصل تمورخان إلى منطقة باعربايا استقبله صاحب حصن كيفا الأيوبي، المدعو الملك العادل سليمان، فأكرم وفادته، فما كان منه إلا أن عاد الى الموصل. غير أن ابنه الأكبر المدعو أمير شاه سار الى آمد، وهبط على طور عابدين وعاث فيها قتلاً ونهباً وتدميراً. وكان يخنق الناس خنقاً، حتى أنه في دير مار غبرييل القرتميني خنق ثلاثمئة نفس، واثنين وثلاثين راهباً ومطرانهم يوحنا. وسار إلى قرية صغيرة في طور عبدين تدعى بيث اسحق، وكان الناس قد تحصنوا في حصنها، فألقى عليهم النار وثقب المعقل الجنوبي لهذه القلعة وخربها، وهجم الجناة على السكان كالذئاب العطشى للدماء فقتلوا الرجال وساقوا النساء والصبيان سبياً، فأتوا على الجميع".

ويضيف القس السبريني أن "تمورخان جاء للمرة الثانية، واجتاح مخرباً جميع بلاد بابل (بغداد)، وأربيل، والموصل، والجزيرة، وماردين، ويقول إن جنوده خنقوا بالدخان خمسمائة نفس في مغارة برسيقي الكائنة تحت الأرض، وكان فيمن اختنق مطران دير قرتمين مار يوحنا القرتميني ومعه أربعون راهباً".

ويستعرض بعد ذلك، في مسرد تاريخي حولي، الوقائع التي مرت على هذا الإقليم السرياني، وهي وقائع مهلكة ومدمرة، تسببت بها الأوبئة والصراعات، بين الدولة الأيوبية في حصن كيفا، والأمراء البختيين الكرد، ودولة تركمان الآق قيون التي تسمى الدولة البايندرية، والسلطنة العثمانية الصاعدة بقوة، وهي قوى كانت جميعها تسعى للسيطرة على هذه المنطقة الفاصلة بين الأقاليم والممالك القديمة والحديثة، منذ عهد الإسكندر المقدوني، وحتى الحروب العثمانية الصفوية.


في صحبة السفير

ويوضح لنا القس إدي السبريني أن زيارته للقدس هي تقليد ديني متبع، خصوصاً في الأعياد المسيحية. وبسبب الأوضاع الأمنية الخطيرة، والفوضى العامة التي كانت تدب في مختلف أصقاع البلاد، استغل القس سفر الأمير حسن المارديني، الذي أرسله السلطان التركماني يعقوب بن حسن الطويل سفيراً إلى السلطان الأشرف قايتباي صاحب مصر. حيث حمل معه هدايا عظيمة ورسائل صداقة وسلام لسلطان مصر والشام من السلطان التركماني. ولم يكن الأمير المارديني وحده، فقد رافقه ابنه الأمير محمد، وقافلة كبيرة من التجار.

ويشير القس السبريني إلى أن هدف هذه السفارة "تسوية العداوة القديمة المستحكمة بين سلاطين مصر، والسلطان التركماني يعقوب من آل حسن باك البايندري، بعد المعركة التي وقعت بينه وبين جيش المماليك الشاميين في الرها، حيث أوقع بهم السلطان يعقوب من آل حسن باك، وقتل في الموقعة زعيمهم المدعو ياش، وهو الأمير المملوكي يشبك الدودار. فلما استقر الملك للسلطان التركماني في حصن منصور التي تسمى حالياً أديامان في جنوبي تركيا، أرسل الخواجا حسن المارديني بسفارة صلح الى صاحب مصر، ترافقه ثلة من الجنود، فأكرم صاحب مصر وفادته، وقدم له سبعمئة دينار هدية، مع هدايا أخرى من الأقمشة المذهبة لجنوده وأتباعه".

وأخبار هذه المعارك مذكورة في كتب رحلات العصر المملوكي الأخير، مثل "رحلة الأمير يشبك الدودار" التي كتبها ابن أجا الحلبي، و"رحلة السلطان الأشرف قايتباي إلى بلاد الشام"، والتي كتبها ابن الجيعان. وهي إرهاصات سبقت القضاء على الدولة المملوكية، ومهدت لصعود العثمانيين وتحولهم إلى إمبراطورية.

رافق القس السبريني في رحلته إلى الديار المقدسة ابنه القس توما، والربان شابو صليبا، والقس غبرييل، والقس روبيل السبريني، ورافقهم كثيرون من أبناء باسبرينا. ويقول القس إدي إن الامير حسن المارديني هذا، أحاطه، أي القس إدي ورفاقه، بكل رعاية واحترام، وهم في طريقهم معه الى الديار المقدسة، حتى أنهم لم يدفعوا لأحد قرشاً واحداً في الطريق.
 

من الرملة إلى القدس

ويمتدح القس السبريني معاملة الأمير حسن المارديني الذي بالغ في تأمين راحتهم وإكرامهم، حتى أوصلهم إلى مدينة الرملة في فلسطين، وهناك عرفهم على أمير القدس المملوكي، وكان عائداً إلى المدينة المقدسة من رحلة خارجها، وفي ذلك يقول: "في الرملة صادفنا أمير أورشليم، وهو ذاهب إلى المدينة المقدسة، فأوصاه السفير (حسن المارديني) بنا خيراً، وقدمنا لأمير أورشليم قطعتين من القماش الفاخر هدية، وسرنا معه حتى وصلنا إلى القدس، ولم يستطع أحد أن يؤذينا في الطريق".

ويشير القس إلى أن السفير المارديني عاد بعد فترة من سفارته إلى مصر، وزار القدس، وعرض عليهم أن يرافقوه في طريق عودتهم، فاعتذروا منه لإكمال زياراتهم للأماكن المقدسة.


الفروض الدينية

يقول القس السبريني إنه ورفاقه أدوا الفروض الدينية، فزاروا القبر المقدس في مدينة القدس، وشاهدوا النور المقدس، والمقصود المعجزة التي تحدث كل عام في يوم سبت النور، حين يقوم بطريرك القدس للروم الأرثوذكس بخلع ملابسه قبل أن يدخل وحده إلى القبر المقدس للسيد المسيح. وبينما يردد المؤمنون خارج القبر عبارة "كيريا لايسون" اليونانية التي تعنى يا رب ارحم. تنزل النار المقدسة على 33 شمعة بيضاء مرتبطة بعضها بالبعض الآخر بواسطة البطريرك داخل القبر، ثم يظهر البطريرك، ويشعل 33 شمعة أخرى، لتوزع على المحتفلين في الكنيسة، كرمز لقيامة المسيح.

ومهرجان النور المقدس ما يزال يقام بشكل سنوي وبالطقوس نفسها منذ العصور الوسطى، إذ ذكر ذلك الرحالة برنار الحكيم في العصر العباسي، كما ذكره الكثير من الرحالة والحجاج الغربيين.

ويذكر القس السبريني أنه زار بقية الأماكن المقدسة مع صحبه، وهي بالإضافة إلى كنائس ومزارات القدس، كنيسة المهد في بيت لحم، ومكان التعميد في نهر الأردن، ومقام إبراهيم الخليل، وغيرها من كنائس ومقامات معروفة لدى الحجاج المسيحيين، قبل أن يقرروا العودة الى بلادهم.


الوباء الكبير وانقسام الدولة البايندرية

يشير القس السبريني إلى أنهم اتخذوا الطريق البحري من يافا إلى طرابلس، حيث يقول: "كنا قد نزلنا في بحر قبرص (أي البحر المتوسط)، حيث نزل بعضنا إلى طرابلس، فحماة، وذهب البعض الآخر، ومنهم ابني القس توما، إلى دمشق".

ويضيف: "عندما دخلنا حماة، مرض ومات الربان يشوع الراهب السبريني ابن القس موسى، فاحتفلنا بدفنه هناك، وأصيب القس توما ابني بمرض عضال في دمشق، إلَّا أن الله سبحانه شفاه. ومكثت أربعين يوماً في حماه أنتظر رجوعه إليَّ. وبعد ذلك ذهبت بنفسي إلى دمشق، بألم عظيم، حيث مات من الرفاق في دمشق الربان شابو الراهب الصلحي، والقس غبرييل، فاحتفلنا بدفنهم وشيعناهم أنا وابني القس توما وتلميذي القس صليبا، والقس هابيل".

وسبب هذه الوفيات هو وباء الطاعون الذي ضرب العالم في ذلك التاريخ، حيث ذكره أكثر من مؤرخ أبرزهم ابن إياس في تاريخه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" إلا أن مجموع الجنازات التي كانت تشيع في القاهرة كل يوم حوالي 24 ألف جنازة، وفي دمشق أكثر من ألف جنازة.

ويقول القس السبريني: "من دمشق عدنا جميعاً إلى حماة، وتأخرت عودتنا من دمشق إلى ما بعد عيد العنصرة (في شهر حزيران/  يونيو عام 1493)، لأن الوباء كان ضاربا أطنابه في كل بلاد الشام ومصر وبلاد الروم، حتى انقطعت الطرق". ويشير إلى أن قلة من الناس عادوا إلى أوطانهم سالمين، من دون أن يصابوا بالوباء، ويقول: "أما نحن فسرنا من حماة، ووصلنا حلب، فرأينا الطرق مقطوعة من المسافرين، خوفاً من الوباء الهائل الذي كان ما زال جاثماً على بلاد الشام".

ومن سوء حظ القس السبريني ورفاقه أن انقساماً وقع في مملكة التركمان البايندرية، فاختل حبل الأمن كما يقول "ولم يتيسر لنا أن نسير بسببه إلى الرها، وعليه اضطررنا للسفر مع قافلة من التجار الى بلاد كركر (وهي منطقة بين آمد وملطية على نهر الفرات) بين جبال وعرة بمحاذاة نهر الفرات".

ويقول: "بعد ثمانية أيام وصلنا إلى كركر، فألقى صاحب المنطقة القبض علينا، وأهاننا، وسجننا في حصن المدينة ثمانية أيام حتى عيد مار توما (3 تموز/ يوليو 1493م)، ثم أطلقنا بعد أن سلبنا ما كان معنا من الهدايا والصلبان والأمتعة، فعبرنا نهر الفرات ووصلنا إلى حصن الحصرم، وقبض علينا صاحب الحصن أيضاً، فسلبنا ما كان قد بقي معنا، وكبدنا آلاماً كثيرة ضرباً وتبريحاً، ولو لم تحطنا عناية الله، لقتلونا جميعاً".

ولم تنته هذه المعاناة إلاَّ في مدينة جرموك الأرمنية، حيث أصابوا شيئا من الراحة، ومن هناك توجهوا إلى مدينة آمد في رحلة طويلة شاقة، فوجدوا أبوابها مغلقة مكلسة، والسبب كما يخبرنا القس أن "نور الدين علي البايندري التركماني، كان يعيث في المنطقة نهباً وسبياً وفتكاً بدون رحمة ضد أبناء عمه من آل حسن بك. وقد حاصر حصن كيفا، وجمع له جيوشا جرارة، وقبض على سلطان بك وزير السلطان بايسنقر ابن السلطان يعقوب وقتله ومثل بجثته. وكذلك عمل بقواد جيشه، لأن سليمان بك زعيم السلطنة الدلغارية التركمانية كان قد هرب من أطراف تبريز، وجاء لاجئاً الى حصن كيفا، فسلمه أصحاب الحصن الى نور الدين علي المذكور فقتله، كما أن آل حسن بك وأمراءهم، أطلقوا سراح رستم بك بن مقصود بك بن حسن بك، وجعلوه سلطاناً عليهم عام 1493".


خراب عميم

يقول القس السبريني إن نور الدين علي الذي تمرد على ابن عمه رستم بك، استولى على بلاد ماردين، وحصن كيفا، وآمد ونصيبين، وسلب ونهب كل تلك المناطق. ومن نصيبين انطلق وهاجم قرية صلح في منطقة طور عابدين، وسلب دير مار يعقوب، ونهب الكتب، والآنية القدسية، وغلال الدير، وجرد مذبحة من الكؤوس والصواني والثياب الأبوية والكهنوتية، والعكاكيز والصلبان".

ويؤكد القس إدي فرار البطريرك مسعود وجميع الرهبان معه، مما أدى إلى إقفار الدير من السكان. ويضيف القول: "إن نور الدين علي عاث في المنطقة كلها سلباً ونهباً، إلا منطقة حصن هيثم، في منطقة طور عابدين، فقد سلمت من شره. وقد استغل الأشقياء حالة الفوضى، فدمرت الأديار والكنائس بيد الأكراد، وكان المسيحيون في ضيق عظيم".

ويخبرنا القس السبريني أن هذه الحروب الطاحنة بين نور الدين علي المذكور وأبناء عمه استمرت، ولم يستجب للصلح رغم الدعوات الكثيرة، إلى أن استولى على المنطقة قاسم بك خال السلطان مسيح ميرزا، وكان قد جمع جيوشاً جرارة، ولكن أبناء قاسم المذكور تمردوا عليه وشقوا عصا الطاعة، وتحصنوا في قلعة ماردين، وكان معهم أسرى كثيرون".

وقد استمرت حالة الفوضى هذه إلى أن نشبت الحرب العثمانية-الصفوية، قبل أن تقع المنطقة برمتها في يد العثمانيين.

المساهمون