ذكرى ميلاد: مايكل أنجيلو.. الرجل الذي نحت "دافيدي" رمز النهضة

06 مارس 2023
مايكل أنجيلو في بورتريه لـ دانييل ريتشياريللي، زيت على خشب، 1544 (Getty)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يُصادف اليوم 6 آذار/ مارس، ذكرى ميلاد الرسّام والنحّات الإيطالي مايكل أنجيلو (1475 - 1564).


يُحتفَل اليوم بمرور 548 عاماً على ولادة مايكل أنجيلو؛ النحّات والرسام والمهندس المعماري والشاعر الإيطالي الذي عاش في أوائل عصر النهضة، واشتهر خلال مسيرته بإنجازه مجموعة لوحات ومنحوتات فنية، منها: "تمثال دافيدي" (داود)، و"منحوتة بيتتا" (تُمثّل المسيح في حضن أمه مريم بعد إنزاله عن الصليب)، و"جدارية الحُكم الأخير"، وزخرفة "سقف كنيسة سيستينا" في روما.

وُلد مايكل أنجيلو في كابريزي بالقرب من أريتسو في توسكانا، وترعرع في فلورنسا، حيث درس علوم القواعد واللغة تحت إشراف فرانشيسكو دا أوربينو. وفي سن الثالثة عشرة أصبح متدرّباً عند الفنان دومينيكو غرلاندايو، والذي كان يملك واحدة من أكبر ورش العمل في فلورنسا. قبل أن يُعهدَ به عام 1489 إلى لورنزو دي ميديتشي بعد أن طلب الأخير من معلّمه غرلاندايو أفضل تلميذين عنده؛ فدرسَ لمدّة عامين في "أكاديمية ميديتشي الإنسانية"، والتي تأسست على الفلسفات الأفلاطونية الحديثة. ولكن بعد وفاة لورنزو دي ميديتشي عام 1492، ونشوب الاضطرابات السياسية في فلورنسا، عاد مايكل أنجيلو إلى منزل والده، ثم سرعان ما انتقل إلى مدينة بولونيا ومنها إلى روما.

خلال هذه الفترة أنجز أعمالاً ومنحوتات لصالح شخصيات عديدة، بما في ذلك المصرفيّين والقادة الدينيّين. وفي عُمر الحادية والعشرين سنحت له الفرصة للقاء الكاردينال الفرنسي جان بيلهيريس دي لاغرولياس، مبعوث الملك شارل الثامن إلى البابا. حيث أراد الكاردينال إنشاء تمثال كبير يصوّر مريم العذراء مع ابنها يستريح بين ذراعيها بعد إنزاله عن الصليب، لتزيين قبره، وهذا التمثال هو "بيتتا"، الذي سيصبح أحد أشهر أعماله. تتميّز تحفة مايكل أنجيلو الرشيقة هذه، والتي يبلغ طولها 69 بوصة فقط، بأن كتلة رخام واحدة نُحتت منها شخصيّتان، وهي إلى اليوم ما تزال تجذب آلاف الزوّار إلى "كاتدرائية القديس بطرس"، حتى بعد أكثر من 500 عام على إنجازها.

في نحته تمثالَ داود تتجلّى رؤيته التجديدية المختلفة عن معاصريه

ومع عودته إلى فلورنسا، كان قد أصبحَ الفنان الأشهر والأعلى أجراً في أيامه. وفي عام 1501 طُلب منه نحتُ تمثال رخامي بملامح ذكورية ضخمة، لإضافته على صرح الكاتدرائية الشهيرة في المدينة، والمعروفة رسمياً بكاتدرائية سانتا ماريا ديل فيوري. وهنا اختار أن يصوّر داود شابّاً، مستوحياً إياه من العهد القديم للكتاب المقدس؛ بوصفه تلك الشخصية البطولية القوية والروحية في آن، والتي أتمّ صنعها (بارتفاع 17 قدماً) من رخام منطقة كارارا بعد ثلاث سنوات من العمل. 

الصورة
تمثال بيتتا - القسم الثقافي
تمثال بيتتا

كان النحات أغوستينو دي دوتشيو أول مَن تم تكليفه بهذه المهمة، كجزء من تجديد "كاتدرائية فلورنسا" عام 1463، فبدأ بنحت الأرجل وبعض الأقشمة حول القدمين، قبل أن يتخلّى عن المشروع بعد فترة وجيزة من البدء. ليُصار بعد ذلك بعشر سنوات إلى تكليف نحاتٍ آخر هو أنطونيو روسيلينو، لكنه عجز أيضاً عن إتمام المشروع. وبهذا تُركت الكتلة الرخامية في ورشة الكاتدرائية لمدّة 26 عاماً، إلى أن أقنع مايكل أنجيلو سلطات الكاتدرائية بالسماح له بإكمالها.

اختار أنجيلو تصوير داود في وضع غير عادي، ونأى بنفسه عن تقاليد النهضة السابقة، حيث كان يتم تصوير داود فيها بعد فوزه، منتصراً على جالوت المقتول، وهذا ما يبرز في نُسخ أُخرى من تمثال داود وقّعها كلٌّ من: أندريا دل فروكيو، ولورنزو غيبرتي، ودوناتيلو. بدلاً من ذلك، اختار مايكل أنجيلو، ولأوّل مرّة على الإطلاق، تصوير داود قبل المعركة مع جالوت وإبراز ردّ الفعل البشري للقتال، مُلتقِطاً إياه وهو في قمّة التركيز، حيث يظهر داود متوتّراً يقِظاً، مع انشدادٍ في رقبته وعروقه المنتفخة، ويستريح على الوضع الكلاسيكي المعروف باسم Contrapposto (وضعية التعارُض).

لم تقتصر إنجازاته على الحقل التشكيلي، بل ترك قرابة 300 قصيدة أيضاً

في هذه الوضعية يقف المجسّم على ساق واحدة تحمل وزنه الكامل، وتكون الساق الأُخرى متقدّمة إلى الأمام، وهذا يعُطي منحنىً على شكل حرف "S" للجذع بأكمله. كذلك المقلاع الذي يحمله بيده اليسرى على كتفه، والصخرة التي يحملها في يده اليمنى غير مرئية تقريباً، كل هذا يؤكّد أنّ انتصار داود هو انتصارٌ للذكاء وليس للقوّة فحسب. كما أنّه يوحي بالثقة بالنفس والتركيز، وكلاهما من قِيَم "الرجل المفكّر" الذي يعتبر نموذجاً للكمال في عصر النهضة. 

الصورة
تمثال داوود - القسم الثقافي
الجزء العلوي من تمثال داود

وبسبب طبيعة الشكل الذي يمثّله، سرعان ما أصبح هذا التمثال رمزاً للدفاع عن الحرّيات المدنية المتجسّدة في جمهورية فلورنسا، ودولة المدينة المستقلّة المهدّدة من جميع الجوانب من قِبل الدُّول المتنافسة الأكثر قوة، والمهددة بطبيعة الحال من هيمنة آل ميديتشي. تركّزت عيونُ داود، بوهج تحذيري، نحو روما، هناك حيث تعيش عائلة ميديتشي.

ظلّ مايكل أنجيلو يشتغل ويُنجز أعمالاً حتى وفاته عام 1564. وبالإضافة إلى أعماله الفنية الكبرى، أنتج منحوتات ولوحات جدارية وتصميمات معمارية ورسومات، وإنْ كان بعضُها لم يكتمل أو فُقد. كما كان أيضاً شاعراً بارعاً، وقد ترك قرابة 300 قصيدة. وقد احتُفي به وهو حيّ بوصفه واحداً من أعظم الفنانين الأحياء، كما يُحتفى به اليوم بوصفه واحداً من أعظم الفنانين على مرّ العصور. 

يعدُّ بعض المؤرخين مايكل أنجيلو "رجل عصر النهضة"، إلى جانب فنانين مؤثرين آخرين مثل ليوناردو دافنشي. وما زال تمثاله لداود الذي ينتصب اليوم في Galleria dell' Accademia ("معرض الأكاديمية") بفلورنسا أشهر أعماله، ويُعتبر نموذجاً مثالياً من الناحية الفنية، ورمزاً حيوياً عن عصر النهضة، والمدينة، وتراثها الثقافي والفني.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون