دلير يوسف في "قاعدة الخوف الذهبية": عمارة في الخيال

05 يوليو 2022
دلير يوسف
+ الخط -

رواية الكاتب السوري دلير يوسف "قاعدة الخوف الذهبيّة" رواية خياليّة، وفي الوقت نفسه كلّ ما فيها يُشير إلى الواقع. فهي بحثٌ عن مُعادل فنّي لما يشهده بلد الكاتب، ليس ذلك البلد المعزول منذ سنوات فحسب، بل الرواية الصادرة عن "خان الجنوب" أكثر شمولاً من الثورة على الاستبداد. فهي تتحدّث عن الأمكنة المعزولة والثقافة التي تسودُها. وتدور أحداثها في ستّ جزر مُتخيّلة، حيث يختبر الروائي في فصول وحكايات مُنفصلة موضوعات الثورة والحُبّ في بُعدٍ تقليديّ.

ولكن أعمق من ذلك، يتناول الكاتب بصورة رئيسيّة المعتقدات؛ نشأتها والارتداد عنها واندثارها. وكلّ هذا يحدث في فضاءٍ معزول، حيثُ يخضع البشر في الرواية إلى تناوب قواهم الخاصّة وقوى الطبيعة. وتدور صراعاتهم حول السيطرة على الموارد، وعلى قوى البشر الآخرين. الرواية بالكامل تحدثُ في زمانٍ غير معلوم، ويمكن لأحداثها أن تجري في كُلّ ثقافة معزولة.

كلّ كاتب يصنع "ماكوندو" خاصّة به. وبالنسبة إلى "قاعدة الخوف الذهبية"، فقد صنع صاحبُها من إحدى الجزر الستّ مسرحاً لحكاياتهِ التي وزّعها إلى أدوارٍ بطبيعة مسرحيّة، وبمواقف مسرحيّة وأداء مسرحيّ للحشود التي تتّجه إلى قصر الطاغية لتحرير السجناء. ويجدُ القارئ في هذا الفصل وصفاً واقعيّاً بالمقاييس كافّة للسجون في بلداننا، ولخروج المقهورين إلى الشوارع وحصارهم للقلاع، وانقضاض القلاع عليهم.

لولا أنّنا في رواية خياليّة تخرج فيها الصخور، وتساعدُ الحشود في دَكِّ حصون الطاغية المدعوم من حكّام باقي الجزر. كما أنّ سكّان الجزيرة، حالهم كحال باقي الجُزر، ممنوعٌ عليهم التنقُّل فيما بينها وممنوع عليهم معرفة كيف يعيش الآخرون. بذا تكون "قاعدة الخوف الذهبيّة" التي قصدها الكاتب هي الجهل. فالبشر يعبدون ما يجهلونه، عهدهم بعبادة النّار في الأزمان الغابرة.

ويتأتّى الجهل في الرواية من العزلة عن العالم، وهي وفق قوانين هذه الرواية عزلةٌ مفروضة من الحكّام على الناس. كما لو أنّها أيضاً في مكانٍ آخر عزلةٌ تقول: اِبقوا جاهلين كي تبقوا محكومين بالخوف. كما يبدو تحقّق الحريّة أمراً فوق طبيعي، يحتاج تدخّل كائنات من غير طبيعة البشر كالحجارة، وهذه إحدى الاستعارات التي يتحكّم فيها الخيال بالواقع. كي يَشعرَ القارئ بأنّ الزمن، الذي له تقويم مختلف في الرواية، يمضي قدماً، والحريّة قادمة. لكنها في الرواية، كما في الحياة، تبدو حريّة تتحقّق كي تُنتَزَع مجدّداً. فيوميات أهالي الجزيرة ما هي إلا جولات لانتزاع حريّتهم. يوميات يصوّرها الكاتب مليئة بالحبّ والموسيقى والجمال وهو ما عهده القارئ بالشعوب الحَيّة.

استعارات يتحكّم فيها الخيال بالواقع وكأنّ الزمن له تقويم مختلف

كما يستخدم الكاتب الحبّ بصورة دائمة للتعبير عن شخوصهِ، وهو ليس حبّاً بين جنسين بالضرورة، وإنّما بالنسبة إلى العملاق "إسبانو"، هو حبّ لأهالي الجزيرة الذين قتل أبناءهم خطأً بسبب ضخامة جسده. ومع ذلك استمرّ أهل المدينة بتأمين الطعام له، فيما كان يؤمّن لهم الحماية قبل أن ينفجرَ جسده من جرّاء التهام كتل النار، وفي هذا يتّضحُ جانب آخر ممّا يرسم العلاقة بين عناصر الرواية، وهو حاجة السكّان إلى الحماية. فهم مجتمع معزول وبدائي تجمعهم علاقات القوّة في النهاية. ما يتّضح بصورة أكثر مباشرة، عندما يخبّئ الأهالي لحم الغول كي يأكلوه في وقتِ الحصار. فعلاقات القوّة أفضت بهم إلى أن يأكلوا لحم حاميهم.

قاعدة الخوف الذهبية - القسم الثقافي

عند فراغ السُّلطة، تبرز الحاجة إلى وجود المُعتَقَد. يستغلّ أحد سكّان الجزيرة ضعف السلطة وفساد الزمن ويدّعي أنّه صاحب نبوءة. ومن ثمّ يؤسّس لطائفة تؤمن بـ"عايمد". وتعرف هذه الدعوة ما وصل إلينا من كتب التاريخ من مؤامرات ودسائس للسيطرة على الحكم وإخضاع الناس بإخضاع عقولهم. تمضي السنوات ويجفّ الماء الصالح للشرب، وتذهب التفسيرات إلى غضب "عايمد" بسبب ابتعاد السكّان عن الإيمان بهِ. يُذكَر أنّ ما ساعد صاحب العقيدة على نشرها، إلى جانب جهل السكّان، قدرته على القصّ والتأثير في الآخرين بالحديث عن أساطير مجهولة، وبتدوين كلماتهِ. إذ إنّ للخيال سلطته على عقولٍ تعيش في بيئة معزولة.

بحضور التقاطعات مع التاريخ الغابر ومع الواقع الراهن في عدد من البلدان، يبقى الكاتب مُصرّاً على الطبيعة المُتخيّلة لسرديّته، وذلك بالانتقال في الزمن لآلاف السنوات، وتَتَبّع مصير الجُزر التي شيّدها في الخيال. وعلى ضوء هذا، يأخذ القارئ إلى حقبة علميّة مختلفة حيث يُجري باحثون تجربة لخلود الإنسان بنقل رأسه إلى جسد كلب. تقطع الرواية في فصولها الأخيرة ارتباطها بالواقع، وتسودها عوالم غرائبيّة عن مجموعة من العضّاضين المؤمنين بـ"عايمد". سنعرف أنّه إنذار بنهاية زمن الأرخبيل بجزره الست. يحاول عاشقان الهروب من الجزيرة، ويُقتَلان في جزيرة أخرى بسبب خرقهما القوانين التي تُبقي الجهل قائماً بين الجزر.

يُحاول الكاتب ضبط حبكته على أنّها تقاطع أحلام رجلين. وفي النهاية، يتكشّف النّص عن مقولاتهِ؛ لم يكترث أتباع "عايمد" بالمجاعات والأوبئة والحروب والتغيرات المناخيّة، الأمر الذي قاد إلى الانفجار العظيم الثاني. حيثُ اندثر البشر. ونجا منهم سكّان مركبة فضائية في محاكاة لفُلك النبي نوح. لكنه هنا نبي صنعته المخيّلة من العلوم. إذ عاد المختارون من العلماء إلى الأرض، وأسّسوا بشريةً جديدة، على أنقاض تلك التي دثّرها الجهل وأَمَّتها العزلة.

"في اليوم التالي في وسط شارع الخيّاطين، قالت هيلانة لإسكانو حين مسّ ساعده العاري: "ربما الهواء في هذه البلاد ثقيل، لذلك تحسُّ بأشياء تمشي على جسدك". قال لها إسكانو: "لا يا حبيبتي، الهواء هنا مثل الهواء في بلادنا، والشمس هي الشمس، لكن الفرق الوحيد هو الخوف. يا هيلانة أظنّ أنّ العالم أكبر من الجزر الست التي قالوا لنا عنها. ونحن نعيش في أحد أطرافه البعيدة".


* روائي من سورية

المساهمون