استمع إلى الملخص
- يناقش القالش تأثير السردية التاريخية الرسمية على الهوية الوطنية السورية، مشيراً إلى ضعف المقاومة لهذه السردية بسبب القمع السياسي وندرة المبادرات الفردية.
- يربط القالش كتابه الجديد بكتابه السابق "قطار العلويين السريع"، حيث يهدف إلى تفكيك السردية التاريخية الرسمية ودراسة ولادة الهوية الوطنية السورية، مع التركيز على دور العلماء وأهمية الموضوعية في البحث التاريخي.
في عام 1904، شهدت صفحات جريدة "ثمرات الفنون" البيروتية جدالاً أشبه بالمُفاضلة بين مدينتَي دمشق وبيروت، بدأه الإصلاحي الدمشقي محمد هاشم الكتبي بمقال له حمل عنوان "تفاوت البلاد في عوائدها"، وتطرّق فيه إلى الفارق بين الدمشقيّين والبيارتة في زمانه، فحيث انشغل أهل دمشق، برأيه، بأحاديث الطعام والشراب، كان البيروتيون مشغولين بأخبار الحرب الروسية اليابانية، وقد استفزّت هذه المقارنة اثنين من أبناء مدينته: عيد القاسمي وأديب نظمي، ليردّا عليه، عبر صفحات الجريدة نفسها، بمقال عنوانُه "أمُتدمشِقٌ أنتَ أم مُتبيرت؟"، بلُغة لم تخلُ من الدفاع العاطفي عن مدينتهم.
تضعنا هذه الحادثة، التي يوردها الباحث السوري حسّان القالش (1978)، في كتابه "سياسة علماء دمشق: أسئلة الإصلاح والهوية والعروبة (1516 - 1916)"، في قلب الجدال القائم عن أحوال مدننا وضرورة التفكّر في ما هي عليه اليوم. وضمن هذا السياق، تُحاور "العربي الجديد" المؤلّف للتعرّف عن كثب إلى كتابه، الصادر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، والذي يقدّم فيه قراءة جادّة لتاريخ مدينة جريحة أُخرى في منطقتنا العربية اسمُها دمشق.
يقرأ الباحث السوري، المُقيم في مدينة نيس الفرنسية، دمشق من بوّابة العلماء الذين يعتبرهم "مثقّفي عصرهم"، كما يقول في حديثه إلى "العربي الجديد"، فـ"لولاهم لكانت معرفتنا عن التاريخ ناقصة، ذاك أنّ العالِم البارع ألزم نفسه بمسؤوليات متعدّدة، فعدا عن الاهتمام بالعلوم الدينية ونقل المعرفة بهذه العلوم وتنقيحها وتفسيرها، كان العالِم صحافيّ عصره، فراقب تغيّرات المجتمع ولاحظ الظواهر الجديدة وسجّل رأيه فيها، وسعى لإيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية؛ كما أنّه كان مؤرّخ عصره، فدوّن الأحداث المحلّية وأحياناً ربطها بتغيّرات مركزيّة في العاصمة؛ وحتى ميول العالِم وأفكاره وآرائه كانت مؤشّراً إلى المناخ العام وأعطت صورة عن خريطة الولاءات السياسية وغيرها. إلى ذلك، كان العالِم ناطقاً باسم الناس، مدافعاً عن حقوقهم، وصلة وصل بينهم وبين السلطات".
ويضيف: "أمّا دمشق التي نتحدّث عنها فهي باختصار دمشق في الفترة العثمانية الطويلة. المدينة التي لم تفقد، منذ الأمويّين، مكانتها كمدينة - مركز، تجمع بين هويّتها الإسلامية، وموقعها الجغرافي الفريد، والتي ردّ العثمانيون اعتبارها بعدما كانت على هامش حكم المماليك وعاصمتهم: القاهرة. المدينة 'المقدّسة'، التي تمتّعت بجاذبية أَغرت مجموعات من المسلمين على الهجرة إليها والانتساب لها، وتميّزت بقدرة على استيعاب هؤلاء، فأخذت منهم ما يُثريها ومنحتهم طابعها الخاص. وهي المدينة، التي بالرغم من اعتبارها محافِظة ومتديّنة، حافظت على تعدّدها الديني، ولم تضطهد غير المسلمين، الذين اعتبرتهم جزءاً أصيلاً من نسيجها الاجتماعي".
سورية في منعطفها التاريخي
يُرجِع حسّان القالش مسوّغات تأليف كتابه، وفي هذا الوقت بالذات، إلى "ما تمرّ به سورية من منعطف تاريخي مصيري، هو الأخطر منذ ولادتها ككيان سياسي في 1946، ومن ضمن ما كشفَت عنه هذه المرحلة التي لم تنته بعد اختلاف السوريّين حول هويّتهم الوطنية، فكلّ منهم يرى 'سورية' مختلفة عن الآخر، وأحياناً مناقِضة وربما مُعادية لما يراه هذا الآخر. هذا الاختلاف حول الهوية الوطنية تسبّبت به، إلى حدّ كبير، السردية التاريخية الرسمية لسورية، منذ تأسيسها إلى يومنا هذا، وأخطرها وأكثرها هيمنة، السردية التاريخية اتي أنتجها نظام آل الأسد".
ويُتابع القالش حديثه إلى "العربي الجديد" قائلاً: "كانت مُقاومة هذه السردية التاريخية ضعيفة جدّاً. وهذا الضعف لم يكن نتيجة تجذّر القمع السياسي منذ 1970 فقط، بل أيضاً لندرة المبادرات الفردية لمواجهة هذه السردية، فمثلاً، كنتَ تستطيع العثور على معارضين لهذه السردية، لكنّهم ليسوا بالضرورة مقتنعين بضرورة إزالتها لصالح تشييد سردية معتدلة، تتبنّى على هامشها الرسمي تياراً لإعادة التأريخ، بل قد يكون هؤلاء من مُعتنقي سردية عروبية رومانسية، أو يسارية راديكالية، أو حتى إسلامية ناقمة. بالتالي، يأتي كتابي ضمن مناخ هذه المرحلة، وضمن أحد أهدافي في مشروعي البحثي، وهو دراسة ولادة الهوية الوطنية السورية، ضمن عملية تفكيك السردية التاريخية الرسمية. وإلى جانب ذلك كلّه، كنت أشعر بواجب تجاه مدينتي دمشق، أن أكتب عنها بشكل مختلف، وقبل ذلك كلّه، أن أدرس تاريخها وأتعرّف إليه أكثر".
كان علماء مدينة دمشق صحافيّي عصرهم ومؤرّخيه
لا ينفصل كتاب القالش الثاني "سياسة علماء دمشق" عن كتابه الأوّل "قطار العلويّين السريع: الوعي السياسي عند العلويّين النشأة والتطوّر (1822 - 1949)"، ("المؤسّسة العربية للدراسات والنشر"، 2017)، بل يستكمله من حيث "العمل على تفكيك سردية التاريخ الرسمي لسورية، والإضاءة على كلّ ما مُنعنا من التفكير والبحث فيه"، يقول: "في 'قطار العلويّين السريع'، كان هدفي دراسة العلويّين لا كطائفة، بل كجماعة ساهمت في تاريخ سورية، وبالتالي، مقاومة الأفكار النمطية والتصوّرات المُسبقة التي تراكمت في الوعي الجماعي لفئات متعدّدة بخصوص هذه الجماعة، والتي كان نظام آل الأسد مدركاً لها واستثمر فيها. وبهذا، كان الكتاب بمثابة ردّ اعتبار لجماعة وطنية جرى تشويه صورتها بشكل متعمّد، ثمّ أتى 'سياسة علماء دمشق' ليردّ الاعتبار لدمشق، ويقاوم الصورة النمطية التي تكرّست خلال حكم آل الأسد عن هذه المدينة، على أنّها أنانية وخانعة وانهزامية، وهي صورة تبنّاها البعض في أوساط المعارضة بمن فيهم مثقّفون محسوبون عليها".
دمشق منزوعة السحر
وعلى الرغم ممّا لدمشق من مكانة خاصّة في السرديات السورية والعربية، فإنّنا نرى حسّان القالش يقف أمام مدينته "مُتنازلاً عن الاعتداد الرومانسي"، كما يكتب، في لحظة ربّما تكون الأشدّ كارثية في تاريخ المدينة الحديث. وهنا يمكن اعتبار كتابه في إطار "نزع السحر" عن وجه المدينة، وعن هذا التفصيل يقول لـ"العربي الجديد": "دمشق اليوم، كما أراها، هي مدينة معقّدة ومريضة في آن، لكنّها تمتلك جسداً قويّاً قادراً على المقاومة والتحمُّل. لا شكّ بأنّي أعشقها وأتمنّى الدفاع عنها كغيري، لكنّ ذلك يتطلّب إدراكاً لهذه المسؤولية، وألّا تكتب عنها بحُبّ، بل بمعرفة وإلمام وصدق، أن ترصد ما ارتكبه بحقّها محبّوها قبل أعدائها، وأن تُحلّل أشكال هذا الحبّ. إنّ الحبّ الكبير الذي أغدقه كثيرون، صادقون ومنافقون، على دمشق، أعمى كثيرين عمّا تعانيه هذه المدينة، وإن واجهتَ هؤلاء بهذا قالوا لك: لم نسمع من أبناء المدينة شكوىً كهذه، وهو صحيح بنسبة ما، لكنّ مردّ ذلك لا يعود فقط لتراكم القمع الذي عاناه الدمشقيون، بل لشيء آخر غير محسوس ولا يدركه إلّا قليلون، وهو أحد طباع المدينة وأهلها، المتمثّل بالصبر، هذا الصبر الذي نتج عن الخبرة التاريخية للمدينة".
ويُضيف: "دمشق اليوم، ليست دمشق، هي في غيبوبة. لن تزول بالتأكيد، لكنها في أشدّ حالات المرض. صحيح أنّ كثيراً من معالمها قد اندرس منذ زمن طويل، كما حال كثير من المدن، لكنّ الأمر أخذ طابعاً منهجياً مع نظام آل الأسد، وقد شهدتُ ذلك عندما كنت أعمل تحقيقات صحافية تتعلق بتغيير معالم المدينة؛ والأدهى من ذلك كلّه، ما يجري اليوم من إهانة لرمزية دمشق: حين رُفع عَلم حزب الله فوق الجامع الأمويّ، وأُهينت رمزية خان أسعد باشا بجرأة أحد آل الأسد على الاحتفال بعرسه فيه، وأزيل السوق العتيق، وأُحرقت بيوت تراثية، والمصيبة الكبرى، مشروع إعادة الهندسة الديمغرافية لسورية ومن ضمنها دمشق".
في المقابل، تبقى الدعوة أو محاولة "نزع السحر" عن وجه المدينة صعبة وحسّاسة في هذه المرحلة، إذ تُعارِض "المُتخيَّلات" الوطنية أو القومية التي درج السوريون عليها وضروراتها. ومن هذه الزاوية النقدية يستكمل القالش قوله: "الصعوبة والحساسية لا تنفيان أنّها ضرورية وإلّا استفحل المرض في دمشق. وهذه 'المتخيّلات' هي من مصائب هذه المدينة. دمشق مدينة عربية في صميمها، لكنّها عانت من العروبة الأيديولوجية، وعانت من رغبة كثير من العرب سواء بامتلاكها أو الهيمنة عليها. لقد سحق القوميون العرب شخصية دمشق المتفرّدة، وشاركهم بذلك كثير من أبناء المدينة. هؤلاء الذين انكفأ كثير منهم إلى النوستالجيا أو الحنين، فحشروا أنفسهم في دائرة مغلقة يتحسّرون فيها على ماضٍ قريب، يجهدون في تصويره بأحسن الأوصاف".
مقاربات النخبة والتاريخ من أسفل
بالعودة إلى "العلماء"، نجد القالش يُقدّم لكتابه بأنّه دراسة لـ"الطبقة المثقّفة". وهنا سألت "العربي الجديد" الباحث عن مدى انضباطه بمقاربات "مُجتمع النخبة" فقط، حيث تُحسَم الصراعات بميزان الواقعية السياسية الكلاسيكي، من دون أن نرى نخبة مُتأثّرة بالقواعد (الهوامش) ولا بالتمرُّدات العامّية - وما أكثرها في تلك الحقبة! - رغم أنّه يستعين في بعض المواضع بأعمال مؤرّخين من أنصار مقولة "التأريخ من أسفل" كالمصري خالد فهمي.
وعن هذا السؤال يُجيب: "أتّفق معك إلى حدّ كبير على منطق السؤال. سأوضّح لك: خالد فهمي، وأنا من المعجبين به، يقوم بعملية تأريخ، سواء من الأسفل أو من الأعلى، وهذه مهمّة شاقّة ولها ضوابط كثيرة، وتعتمد أصالتُها وقيمتها على وفرة الوثائق وقيمتها. أمّا عملي فهو البحث في هذا التاريخ الذي ينتجه خالد فهمي وغيره، وقد يتقاطع عمل أمثالي مع عمل المؤرّخ، وذلك في السعي خلف المعلومة الجديدة، بحثاً أيضاً في الوثائق والأرشيفات. لكنّه في النهاية يبقى بحثاً، ينضبط بالثيمة أو الموضوع المُختار. هنا نأتي إلى مسألة 'النخبة'. فموضوع 'سياسة علماء دمشق' ثيمتُه الرئيسية هي دراسة 'نخبة'. هنا قد يكون مصطلح 'نخبة' مُضلِّلاً بعض الشيء، إذ قد يوحي بفئة منقطعة الصلة عن المجتمع، لكنّ النخبة التي درسها كتابي هي نخبة مرتبطة بالمجتمع ارتباطاً عضوياً، وعلى احتكاك مباشر ودائم فيه".
ويتابع حول مسألة "التأريخ من الأسفل": "دعنا لا نعقّد الأمور، المسألة هي إمّا أن يكون تأريخاً جيّداً ورصيناً، أو تأريخ سيّئاً. والتأريخ أنواع أيضاً كما هو مدارس ومناهج، هو، إن بسّطناه، أشبه بعدسة مكبّر، تضبط درجة تركيزها حسب رغبتك وحاجتك. من هنا أتت مصطلحات 'تاريخ مقرّب' و'تاريخ إطاري'، إن صحّت ترجمة micro history and macro) (history. لعلّ المقصود عند البعض الإشارة إلى مراعاة المجتمع عند التأريخ، بمعنى أن تكون أصوات وتفاعلات العامّة، أو الناس العاديّين، حاضرة ومؤثّرة على عملية التأريخ. وبالرغم من أنّ كتابي يدرس نخبة المدينة، إلا أنّ صوت الناس كان حاضراً بدوره وذا أثر على الاستنتاجات والخلاصات، فعدا عن الأحداث التي كانت محورية في تطوّر سياق البحث، كثورة الدمشقيّين في 1724 بقيادة المفتي البكري، أو نقمة الأهالي على أعيان المدينة في أواسط القرن التاسع عشر بسبب إرهاقهم بالضرائب وتسجيل أراضٍ جديدة باسمهم، وغيرها. كنتُ قد أشرت في أكثر من مناسبة إلى معضلة كون العلماء منتمين إلى نخبة، وأنّ الإصلاحيّين منهم كانوا واعين لهذه المعضلة، فمعهم جرى 'تفكيك الطابع النخبوي' لطبقتهم".
عقلنة العروبة والقناعة بالدولة الوطنية
سألت "العربي الجديد" الباحثَ حول انشغاله النقدي بالطروحات القومية للمؤرّخ السوري الراحل عبد الكريم رافق (1931 - 2024)، صاحب كتاب "العرب والعثمانيّون" (1974)، وسعيه إلى تفكيكها إلى جانب طروحات آخرين مثل ستيف تماري الذي رأى أن إرهاصات "عروبة مبكّرة" بدأت تلوح في القرنين الأوّلين من الحُكم العثماني، والتي يصفها القالش بـ"الإشارات المُضلّلة"، وعليه بدا كتاب "سياسة علماء دمشق" مستبطناً ملامح "تنقيحية".
مُقاومة السردية التاريخية الرسمية عن دمشق ضعيفة جدّاً
وعن سمات هذا التيار ومراجعاته، وشروط تناميه عربياً وتركيّاً، يجيب القالش: "هذا التيّار موجود عندنا، لكني أعتقد بأنّه ما زال ضعيفاً، وأغلب نتاج هؤلاء الأشخاص مكتوب بغير العربيّة، وأغلب الظنّ أن هذا التيار سيشهد تطوّراً مع تقدّم سيرورة عقلنة العروبة والقناعة بالدولة الوطنيّة. وكما أشرتَ، الظروف السياسية تؤثّر على تطوّر هذه التيار، وتزيد الحاجة إلى دعمه وتشجيعه، وهذه الظروف كثيرة، أهمّها اليوم المذبحة الحاصلة في فلسطين وسعي 'إسرائيل' للتغطية عليها. هنا تظهر أولويّة بحثيّة وسياسيّة هي استعادة الحديث عن فلسطين، الذي صادرته أنظمة القمع العربيّة، وانتزاع مقولة 'فلسطين قضية العرب المركزية' منهم، وإعادة تفسيرها على حقيقتها، وعلى مستويَين: شرحٌ، بعيد عن العاطفة والحماسة، لموقع قضيّة فلسطين في تاريخ عرب المشرق، وأهميّة هذه القضيّة وارتباطها المصيري بمستقبل الإقليم بأجمعه. إضافة إلى تخليص القضيّة الفلسطينية من عبء المسؤولية التي ألقتها عليها الأنظمة القمعية، لاعتبارها أولويّة تَعلو على الحرّية السياسية والديمقراطية".
ويُضيف: "أمّا بالنسبة للتأريخ التركي، فالحالة مختلفة عنّا كثيراً. فمن حيث الشكل، الأتراك فريق واحد يعملون على تاريخ واحد، بينما نحن أكثر من فريق تبعاً للدول وتاريخ كلّ دولة. لكنّ التأريخ التركي يشهد نشاطاً في إعادة التأريخ وتصويب السردية التاريخية الرسمية، وذلك منذ بداية هذه الألفيّة، على أنّ التاريخ المشترك العربي - التركي ليس أولويّة عند هؤلاء، فهناك أولويات أُخرى تفرض نفسها عليهم، وأوّلها إعادة البحث في تاريخ السنوات الأخيرة من عمر السلطنة العثمانية، ابتداءً من انقلاب الاتحاديّين في 1908، وهذه مرحلة تحمل في داخلها مسائل شديدة التعقيد والحساسيّة: المسألة الشرقية بالعموم، ومجازر الأرمن، والعلاقة بأوروبا وموقع الإسلام. لكن وفي الوقت نفسه تحظى العلاقات العربية - التركية باهتمام أيضاً، إذ ظهرت العديد من الأبحاث التي فتحت المجال أمام التوسّع في دراسة هذه المسألة، وكمثال، صدرت مؤخراً دراسة جديدة عنوانها 'صورة العرب في تركيا الحديثة'، اعترفت بوجوب تنشيط البحث في هذه المسألة".
في وداع السلطنة
في "وداع السلطنة"، عنوان الفصل التاسع من كتاب "سياسة علماء دمشق"، يلمس القارئ أن نوعاً من الغفلة عن النشاط الصهيوني في مطلع القرن العشرين كان قد أصاب بعض النخبة العربية، وفي هذا السياق يرى القالش أنّ "المسألة الشرقية" كانت أكثر ما استفادت منه الحركة الصهيونية. ويوضح: "في البداية، وجدَتْ الصهيونية في الدولة التي تتبع لها أرض فلسطين، أي السلطنة العثمانية، مناخاً سياسياً يُمكّنها من بناء علاقة بها، فهي دولة متعدّدة وجامعة وغير قوميّة على عكس روسيا وأوروبا، ودولة بحاجة لأي نوع من الدعم الدبلوماسي والمادي، وهذا أمر كان الصهاينة قادرين على توفيره. صحيح أنّ السلطان عبد الحميد قد كبح إلى حدّ ما الاستيطان الصهيوني، لكن الصهاينة كانوا قد بدأوا خطوتهم الأولى وقتها في فلسطين وقرروا عدم التراجع، فزادوا من الضغوط على الحكومة العثمانية".
ويُضيف القالش في حديثه لـ"العربي الجديد": "ومع وصول الاتحاديين إلى السّلطة، وانشغالهم بتداعيات خسارة السلطنة لأراضيها في أوروبا، واحتمال تفككها النهائي، استثمر الصهاينة في هذه التفاصيل. عند أيّ لحظة ضعف أو انشغال، كانوا يزيدون من مساحة الأراضي التي يحصلون عليها في فلسطين، ويضاعفون من جهودهم للهيمنة على اليهود العرب الأصليين وينشرون أفكارهم بينهم. الخطأ الأساسي الذي استثمر فيه الصهاينة هو ثقة بعض الأتراك والعرب بهم، فقد استخدم بعض من الفريقين الصهاينة كورقة ضغط سياسية، وسعوا إلى كسبهم إلى فريقهم. هنا ظهر أوّل انشقاق سياسي بين العروبيين، وهنا نعثر على جذر فكرة مركزيّة قضية فلسطين عند العرب".
تأثير المادة المدروسة
تحتفظ قراءة القالش لدمشق بإطار عقلاني في أجواء تعجّ بالمتصوّفة و"كراماتهم" التي كانت إحدى ركائز الشرعية العثمانية، فضلاً عن حضور ابن عربي الكثيف كحارس للسلالة. وهنا كان سؤال "العربي الجديد" عما إذا كانت هذه الأجواء تستثير نوعاً من المراجعات اللاعقلانية (تيارات جديدة في الاستشراق وأُخرى ما بعد حداثية تعتمد زاوية تحليل نسبويّة)، وكيف يُحصّن، إن جاز التعبير، المؤرّخ نفسه أمامها؟
وعن هذه النقطة أجاب: "لا أدّعي المعرفة بالتيارات التي ذكرتها، لكني أتّفق معك على تأثير المادة المدروسة على الباحث بالعموم. والحقيقة أنّ الجزء المتعلّق بالصوفية والصوفيين كان ربّما أكثر الأجزاء التي استمتعتُ بها. قد أكون مخطئاً، لكني أثناء عملي على بعض الشخصيات، ودون إرادة مني، تنشأ علاقة بيني وبينها، وأحياناً أُسمّي هؤلاء 'أبطالي'، ولطالما راودتني خلال ثوانٍ من الشرود أو أحلام اليقظة فكرة لقائي بهم، وسؤالهم عن بعض التفاصيل، أو العيش متخفّياً بينهم، كأني في صدد كتابة رواية! فما بالك وأنت أمام عالم مليء بالسّحر كعالم الصوفيّة. بالعموم، لا أعتقد بأن انجذاب الباحث إلى شخصية أو تيار ضمن سياق عمله أمراً سلبياً، بل هو جزء من عمليّة الفهم. وبعد الانجذاب تأتي مرحلة صعبة هي مواجهة تحدّي الموضوعيّة، هنا لا بدّ للباحث أن يشتغل على نفسه أولاً قبل بحثه، فإدراكه لأسباب انجذابه نحو المادة المدروسة يساعده في نقدها وتحليلها، وهذه عملية تحتاج إلى وقت، يطول أو يقصر".
وفي السياق نفسه، استطردت "العربي الجديد" في سؤال القالش حول اختزال تاريخ دمشق بصُور درامية ذكورية وبـ"قبضايات"، لم يرد ذكرهم في الكتاب إلّا مرة واحدة، فأجاب: "يميل البعض لتحميل مسؤولية هذا الاختزال إلى ما أنتجته الدراما السورية منذ بداية التلفزيون إلى هذا اليوم، وهذا صحيح نسبياً، لكنّ الأمر أعمق من ذلك. فلا يمكن تجاهل انحلال الطبقتَين البرجوازية والوسطى في دمشق منذ انقلاب البعث 1963، وهذا بحث طويل، لكن مع انحلال هاتين الطبقتَين جرى تشويه لليمين الدمشقي المُحافظ وأُفسح المجال أكثر لرجال الدين. فاليمين المُحافظ، المكروه عند الغالبيّة، يبقى حافظ القيم والعادات، وحقيقةً، لم أقع على دراسة تاريخية 'جادّة ورصينة' عن دمشق تسلّل إليها هذا الاختزال. بالتأكيد هناك كتب غير أكاديمية ولا بحثيّة تناولت الأدب الشعبي، والفولكلور، وقدّمت صورة رومانسية عن دمشق، وهذا النوع من الكتب موجود في كل مكان".
فنّ اسمُه التأريخ
استغرق تأليف كتاب "سياسة علماء دمشق: أسئلة الإصلاح والهوية والعروبة (1516 - 1916)" خمس سنوات، وبطبيعة الحال يمرّ أي باحث خلال هذه الرحلة بمحطات وصعوبات عديدة. وبالنسبة إلى حسّان القالش، فقد أوجز لـ"العربي الجديد" تجربته بالقول: "الصعوبات هي نفسها التي تواجه كثيراً من الباحثين العرب الصّاعدين على ما أعتقد. منها مثلاً عدم القدرة على التفرّغ المريح للعمل البحثي، فهذا الترف لا يتمتّع به الجميع في عالمنا العربي، ومن ناحيتي كان عليّ التوفيق بين عملي البحثيّ من جهة، وعملي الآخر، ولولا جائحة كورونا لاحتجتُ إلى سنتين إضافيّتين لأُنهي كتابي".
وأضاف: "ومن الصعوبات أيضاً، الافتقار لشبكة الأمان الأكاديمي، فعدا عن غياب المؤسّسة الأكاديمية التي تدعم الباحث مادياً، دعماً غير مشروط، هناك فقر في شبكة العلاقات التي تساعد الباحث على إنضاج مشروعه وتمدّه بالنصائح الناجمة عن خبرات هذه الشبكة. انظر مثلاً إلى مقدمات الكتب البحثيّة الغربيّة، ستجد فيها قائمة شكر طويلة لأشخاص قرأوا مسوّدة البحث، أو ناقشوا أفكاره مع الباحث، هذا أمر شديد الندرة في حالتنا. لذلك يرغب الواحد منّا بأن يصدر عمله بأفضل حال، وأن يصل إلى أكبر عدد من القرّاء، ولهذا يخسر بعض الباحثين من وقتهم بحثاً عمّن يتبنّى مشاريعهم، وقد حصل لي ذلك في كتابي الأوّل، فبعدما رفضت عدّة دور نشر قبوله اضطررت إلى نشره على نفقتي، وهذا ما يدعوني إلى اعتراف بالجميل وشكر 'المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات' والقائمين عليه، وعلى رأسهم الدكتور عزمي بشارة، على تبنّيهم لكتابي واهتمامهم به".
ويوضح القالش أنّه في عمله لم يتّبع منهجاً بعينه، بل بنى خبرته من خلال دراسته للكتب والأبحاث التاريخية المتعددة، و"بمرور الوقت جعلتني هذه الخبرة أُميّز بين المناهج المختلفة، لينتهي بي الحال لاتّباع أسلوب معيّن. بالنسبة لي، العمل في التاريخ هو فنّ أيضاً، قدرة الباحث على توسيع قاعدة القراء، فلا يستهدف القارئ المتخصّص فقط؛ وبالتالي، قدرته على كسر الحاجز بينه وبين القارئ، وقدرته على مؤانسة قارئه، وأن يكون في موقع الرّاوي".
ويختم حسّان القالش حديثه إلى "العربي الجديد" بالقول: "تسألني عن قراءاتي الأدبية، هي نادرة جداً، للأسف، سوى ما يتعلّق منها ببحث أعمل عليه، وهذه من سلبيات الالتزام بالبحث. لكني أنتظر نسختي من رواية فواز حداد الأخيرة 'جمهورية الظلام'، فهذا الروائي هو أحد الأشخاص الذين ساهموا في رسم صورة دمشق في مخيّلتي في زمن لم أعشه، وجعلني أراها كما كانت".
بطاقة
كاتب وباحث سوري، من مواليد الكويت عام 1978، يُقيم في مدينة نيس بفرنسا. عمل في الصحافة العربية ونشر العديد من مقالات الرأي، ويُركّز في كتاباته على شؤون التاريخ السوري وتقاطعاته. صدر له كتابان: "قطار العلويين السريع: النشأة والتطور 1822- 1949" عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" (2017)، و"سياسة علماء دمشق: أسئلة الإصلاح والهوية والعروبة 1516 - 1916" عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (2024).