لطالما انقسمت التوجّهات في حقول الفنّ بين مفهومين: الحاجة الوظيفية والمتعة الجمالية. وبعد أن أخذت هذه القسمة مداها تاريخياً، قلّة قليلة من الفنّانين فقط استطاعوا تجاوزها وتقديم نموذجٍ متكامل عنها. ولو شئنا التمثيل على تلك القلّة من حقل العمارة، فسنجد حسن فتحي (1900 - 1989) أبرز معماريّي مصر والعالم العربي ربّما خلال القرن العشرين، حيثُ انطلق في أعماله من الحاجة الوظيفية، وطوّرها ومدَّها في مشروعه الفكري دون أن يهبط بمستواها الجمالي إلى صِيغٍ مُباشرة، ولا أن تستحوذ على كيانه وأدواته قوّة الجمال المُنعزِل عن الجمهور وحاجاته.
على صعيد حقلٍ فنّي آخر هو السينما، يطالعُنا اسم المخرج اللبناني بُرهان علوية (1941 - 2021) - مرّت الذكرى السنوية الأولى لرحيله قبل أيّام - الذي تعاملَ مع السينما بوصفها أداة تغيير لا تجامِل الواقع، بل تفضحه بأسلوب واقعي صارم، إلّا أنّ هذا الأسلوب لم يتنازل أيضاً عن مدارك الوعي الجمالي الأوّلية، وبذات الوقت لم يفتتن بها، رغم ما في السينما من آثار مباشرة وصارخة تشدُّ إلى الاستهلاك والاستسهال.
يجتمع كلا الاسمين فتحي وعلويّة في فيلم وثائقي واحد، موضوعه الأوّل ومخرجُه الثاني، بعنوان: "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" (1978). العمل الذي تستعيدُه الجلسة الختامية للدورة السابعة من "مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية" في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، ويُبثّ عبر "زووم"، هو نتيجة رحلة قام بها علوية إلى مصر، ليلتقي بفتحي ويُسلّط الضوء على مدرسته وفهمه للعمارة، بوصفها أوّلاً وأخيراً "عمارة الفقراء" وهو عنوان كتابه الذي صدر عام 1969، وسرعان ما صار وَسماً يُلخّص نهج فتحي المعماري.
كما يتبع العرضَ نقاشٌ مع الباحثة اليمنية سلمى سمر دملوجي التي سبقَ وعملت مع فتحي بدايةً عام 1975، وبعد ذلك 1984، وهي صاحبة كتاب "حسن فتحي: الأرض واليوتوبيا" (2018) الصادر عن "منشورات لورنس كنغ" في نيويورك، بالاشتراك مع الإيطالية فيولا بيرتيني.
حاول فتحي تقديم تجربة معمارية مختلفة عن النموذج الحداثي التابع
يرصد الوثائقي محاولات فتحي في تقديم تجربة معمارية مختلفة عن النموذج الحداثي التابع، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين بعد أن نالت غالبية دول الجنوب استقلالها، واستلهامه عناصر من التراث في "مشروع القرنة"، في أربعينيات القرن الماضي، الذي اعتمد فيه على الطوب اللبن وهنا يبرز وعيه البيئي المتقدّم في ذلك الحين، إلّا أنه مُني بإخفاق كبير ومن ثمّ وُصِفت أفكاره بالطوباوية.
انقطع بعد ذلك عن العمل داخل مصر، ليعود لاحقاً بمشروع جديد في قرية باريس في محافظة الوادي الجديد، لكنّ مصيره أيضاً لم يكن أفضل من الأوّل، وهو بنفسه حاول تفسير ذلك الفشل بسخرية عندما تحدّث عن ثلاثية المالك والمقاول والمعماري التي تحكم المعمار الحديث، وانقلابها إلى المعماري والفلاح والبيروقراطي، في إشارة إلى تخلّف النّظم الإدارية.
ستكون أمسية الأحد الخامس والعشرين من هذا الشهر، والمتاحة عبر الإنترنت، فرصة لإعادة اكتشاف مشروع فتحي من جديد، وهو يروي شخصياً أمام كاميرا برهان علوية المُشكلات والتحدّيات التي واجهها، وفرصة للتعرّف على اتجاه واحد في العمارة كما السينما، بعيداً عن النزعة التسليعية الرائجة في هذين الحقلين اليوم.