"حديد، نحاس، بطاريات".. صدأ اسمُه العنصرية

31 يناير 2024
من الفيلم
+ الخط -

يضعُنا فيلم "حديد، نحاس، بطاريات" (2022)، للمُخرج اللبناني وسام شرف، والذي أُتيح مؤخّراً ضمن سلسلة عُروض بيروتيّة، بقَلب المُشكلة العُنصرية في لُبنان، مع فارق أنّ نسبة الذّكاء والتلطيف تبقى محفوظةً للفيلم على حساب الواقع العُنصري المُنحَطّ إلى مستويات غير مسبوقة ومُثيرة للشفقة.

تُطالعنا الأخبار بشكلٍ شبه يومي عن محاولات انتحار تُقدِم عليها عاملاتٌ منزليّات أجنبيّات نتيجة تعنيف وسوء مُعاملة، وتحكُّم مَقيت بحيواتِهنَّ، يؤطّره نظام الكفالة، فضلاً عن "إبداعات" على مستوى دمْجِ التكنولوجيا بمُلاحقة النّازحين السُّوريِّين، والتبليغ عنهم عبر "تطبيقٍ" استُحدِث مُخصّصاً لهذه المهمّة.

"حديد، نحاس، بطاريات" لا يُمثّل الواقع المُتبلِّد، بل ينقدُه ويرتقي عليه، لأنّ واقعاً كهذا من الصَّعب أن يُنتِج أو يُلهِم بمُقترَح فنّي حسَّاس. هذا التفصيل، ربّما كان هو التحدّي الأصعب لصُنّاع العمل الذين استطاعوا تجاوُزه فنّياً، وإن جاء هذا التجاوز من باب تلطيف القسوة المشهودة بالكوميديا الخفيفة.

نقد لطبقة قديمة جديدة بوجوه وأقنعة سياسة مُختلفة 

يروي الشريط (83 دقيقة)، قصّة حبٍّ حدثت وقائعُها على أرض "بلاد الأرز"، تجمع مهديّة بأحمد، العاملة المنزلية الإثيوبية باللّاجئ السوري، حيث يُمثِّلان نموذَجين عن أكثر الفئات الاجتماعية هشاشةً، في بلدٍ لا تخلو تقاليدُه من عِبادة القوّة والتزلُّف لها والتبجُّح بها. فكيف يُمكن الرُّكون إلى "بَطلين" مسحوقَين وتمثيل حياتيهما التي تسير خارج هذه القوس؟

يحمل أحمد (لعب دورَه المُمثّل زياد جلّاد) كابوس الحرب السوريّة على كتفه. بقعةٌ من الصدأ الأسود فوق جِلده تتوسّع شيئاً فشيئاً بالتوازي مع أيّام الفعالة اللُّبنانية الطويلة، والتي يتحوّل فيها انتظار عبور البحر إلى الضفّة الأُخرى إلى استعصاء في اللّامكان. أمّا مهديّة (الفنّانة كلارا كوتوريه)، فتنجح بتخليص نفسها بعد عدّة مُحاولات أشبه بالمُغامرات، من بيت سيّدتها اللّطيفة (من طراز "نحن نعامِلُها مثل ابنتنا") وزوجها الضابط المُتقاعِد الخَرِف. وهذان الاثنان أيضاً ليسا شخصين، بل رمزين لطبقةٍ خَرِفة ومذعورة وتحتاجُ لمن يقودُها من يدها، دون أن يعني هذا أيّ التزام أو امتنان من قبلها.

قسوة الحديد وتراكُم النحاس والبطاريّات والخُردة تنعكس رقّةً على جسدَي البطلَين اللّذين تستغرقُهما ممارساتُ الحُبِّ الخاطف، ففُرص تأمين مكانٍ لهما شبه معدومة، هُما مُنتَبذان في اللّامكان، حيث ساعاتُ نوم عامِلِي الفِعالة تُؤجَّر وتُباع، وكذلك العاملات المنزليَّات رهيناتٌ لأجَلٍ غير مُسمَّى في بيوت مَن يعملن عندهم. وبالتالي اختطافُ مُمارسة الحبّ بل "سرقته"، هو اقتطاع بالضرورة من حَيِّز ومُمتلكات الطبقة الثريّة ومَسٌّ بتقاليدها "النظيفة".

عمليّة الهروب من المدينة تُعيد الحبيبَين إلى مُخيّمات النزوح. هناك قصصٌ أُخرى ومحيطٌ مختلف، قاسٍ ومُركَّب هو الآخر، لكنّ بُقعة الصدأ على الكتف تتفشّى، وكأنها ساعةٌ رمليّة تُنذر بوقت ينفد أمام جسدين لا يزالان قادرَين على الاتّكاء بعضهما على بعض، رغم أنّ النُّحول والتعب قد هدَّهُما. وفي هبوطٍ نحوَ مشهدٍ أخير، تسقط يدُ أحمد بعد أن اكتمل صدأُها الحديدي من أعلى الكتف إلى نهاية الأصابع، قبل أن يتّجه الجسدان الظلَّان إلى ما يُشبه مركباً كبيراً ينتظرُهما عند الشاطئ.

الفيلم محاولة لتناول قضية العنصرية والتمييز واللجوء في لبنان، وهو انعكاسٌ إلى حدٍّ ما لحِراك مُوازٍ تشهده البلاد، تقودُه ناشطات وناشطون وحقوقيّات وحقوقيون يخوضون نضالاً يوميّاً ضدّ طبقة قديمة/ جديدة بوجوه وأقنعة سياسة مُختلفة، ويدفعون ثمن مواقفهم.

 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون