قدَّمت الفيلسوفة الألمانية حنّة آرندت، في مقالها "نحن اللاجئين"، الذي ترجمه فتحي المسكيني إلى العربية، صورةً طريفة لشخصٍ يهودي حقيقيّ، هو الألماني كوهن، ذلك المهاجر المثالي الذي يحيا في ارتحال دائم من بلد إلى آخر، يقوده إليه قدرُه الرهيب. فمِنْ برلين انتقل مُجبَراً إلى التِّشيك، ليصير وطنياً تشيكياً خالصاً، وتحوَّل مُكرَهاً إلى فيينا، هرباً من اضطهاد النازيين، ثم مرَّ إلى باريس وقد هيَّأ نفسَه للتكيُّف مع فرنسا، ليكشِفَ عن نفس مُضطرّة إلى الاندماج أو التكيُّف مع بلد إقامته الجديدة، وأنْ يَعمد فور حلوله بالبلد الجديد إلى الإلقاء "ببصره على الفور إلى جبال الوطن فيُحبّها".
تَعْرض سرديةُ اليهودي كوهن استعارةً تَصْدق على الترجمة إلى حدّ بعيد، لكنْ بعد تمريرها عبر قناة الأدب تحديداً، نظراً للعلاقة الوثيقة بين الأدب والترجمة بصفتها أدباً صغيراً؛ فالذي لا يخفى هو أنّ العمل الفنّي، مَهْما بلغ من كمال، فإنّ ذلك لا يَقيه من التحوُّل والتغيّر، لأن الأصل في الآثار الفنية، خصوصاً الأدبية منها، هو تعرُّضها إلى تغيُّرات متواصلة ضمن سيرورة التحوُّلات التي يقتضيها الحضور في التاريخ.
والأكيد أن الترجمة هي إحدى تلك المغامرات التي يخوضها النص الأدبي، الذي يُبرز استعداداً طبيعياً، منذ لحظة خروجه إلى الوجود، لكي يغدو جاهزاً لأنْ يُقرأ، أو ليُمثَّل مَسرحياً وسينمائياً... بمعنى أنه يَنخرط في سيرورةٍ تَفرِض عليه تحوُّلات وتجاربَ متنوّعة، لعلّ من أبرز تجلّياتها الحلولَ ضيفاً على غير أهله الأصليين، وهو ما يعني أنه يخوض تجربة الهجرة، على غرار ما تذهب إليه بعض الكتب والأبحاث، التي لم تتردَّد في سَبْغ هذا النعت عليه.
الأصل في الآثار الأدبية هو تعرُّضها إلى تغيُّرات متواصلة
والواقع أن الترجمة، إذا كانت هجرة، فالأكيد أنها ليستْ لجوءاً، لاعتبارٍ جليٍّ، وهو أنّ اللجوء فِعلٌ اضطراريّ ينمّ عن رغبة في النجاة للإفلات من الاضطهاد أو الموت أو غيرهما، لذلك يَظَلّ المعنيُّ به مدفوعاً إلى البَحث عن ملاذ آمن، للحفاظ على ذاته، وليَقينِه في الوقت ذاته بأنه مَحلُّ ارتياب حيثما حَلَّ، ممّا يُفوِّتُ عليه فرصة الاندماج في المجتمع المُضيف.
ونقيض ذلك حال الترجمة بصِفتها وِفادةً أولاً، وتفاعُلاً إيجابياً مع الثقافة المُضِيفة ثانياً، لكونها ترى في تحوُّلها فرصة لخوض تجربة أخرى، وفي إقامتها ــ بصفتها وافدة ــ فرصةً لاستئناف الحياة مجدَّداً، فتَكونُ في صورتها الوافدة، وبفلسفتها المندمجة، تجسيداً واضحاً لعقيدة الأمل، وتعبيراً صارخاً عن الإيمان بالتفاؤل، لأنها لا تَصدُر عن إحساس بالخسارة أو الخيانة أو طلَباً للحماية، طالما أنها تعي أن أصلَها لن يخسر موقعه بتاتاً، بل إنه سيربح موقعاً جديداً في فضائه الثقافي الجديد، حيث يطمح إلى فتح مَسير جديد لذاته.
لا يخفى أن الترجمة، بصفة عامة، تَنحو إلى أنْ تُخرجَ أصْلَها متَكيِّفاً مع الثقافة المستقبِلة، وذلك بإيعاز من دور النشر التي يهمّها القارئ والإقبال على الكتاب، وكثيراً ما يتبنى معظم المترجِمين الاستراتيجية ذاتها، ليتخلَّق النصّ الأصل في غير تُربته ولغته، فيَبدُوَ نصّاً طبيعياً وقادراً على أن يُنسي القارئَ أنه مترجمٌ في الأصل.
لا غرو أن الترجمة تَمنح الأصلَ جنسية جديدة، تكادُ تُنسيناً حتى مؤلِّفه الأصلي، مثلما حدث مع كتابَيْ "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة"، اللذين نُسبَا في عالمنا العربي إلى ثقافتنا، لأن نجاح الترجمة في التكيُّف، وفي الاتّصاف بالانسيابية، يوهِم القارئ بأنه ما كان للأصل إلّا أن يأتي على شاكلة ما بين يديْه.
ولعلّ الصورة أعلاه تجد مطابِقها في وصف حَنّة آرندت ليهوديّ آخر، وَفَد على فرنسا، وخَطب في إحدى الجمعيات قائلاً: "’لقد كنّا ألماناً جيِّدين في ألمانيا، وبناءً عليه سوف نكون فرنسيين جيِّدين في فرنسا‘. صفَّق الجمهور بحماسة، ولا أحد ضحك من الأمر؛ كنّا سعداء بكوننا تعلَّمنا كيف نثبت أننا مخلصون".
* مترجم وأكاديمي من المغرب