ثلاث درجات وممرّ صغير...

25 اغسطس 2024
عمل للفنانة الفلسطينية فداء الحسنات
+ الخط -
اظهر الملخص
- **المدينة تحت الحصار**: المدينة تعيش حالة من الفزع والتوتر بسبب الحرب، الشوارع مزدحمة وصامتة، والوجوه تعكس الخوف. الصواريخ والطائرات تزيد من الرعب، والكاتب يراقب الفوضى من أمام بيته.

- **ذكريات وأمل**: الكاتب يسترجع ذكرياته مع أسماء وهبة، اللتين تمنحانه الأمل. الغرفة أصبحت مأوى لتسعة عشر نازحًا، وكل واحد منهم يحمل قصة وأملًا في العودة.

- **العودة إلى الغرفة**: بعد خمسة أشهر، يعود الكاتب إلى غرفته في 10 مارس 2024. يشعر بالامتنان لسلامتها، لكنه يشعر بالذنب تجاه من فقدوا بيوتهم. يحاول الثبات من خلال الكتابة.

الجمعة 13 أكتوبر/ تشرين الأول

حرارة خانقة، خوف وتوتر، المدينة كلّها مصابة بالنزوح، الشوارع الفارغة باتت الآن مزدحمة جداً، وغارقة في صمتٍ مريب، بدت على وجوه الجميع هنا آثار الفزع والخوف، شيءٌ جديد مرعب ومخيف أصاب المدينة، وعلى مسافات وبين الحين والآخر صواريخ وطائرات تبدو مريبة هي أيضاً.

شعور غريب ينتابني، في لحظة أشعر أنّ كل شيء ملتحم ومتصلب، ولحظة أخرى برغبتي بالنجاة الفردية. أقف أمام باب بيتنا الصغير، الكبير بما يحتويه، أراقب كل ما يحدث، وجوهٌ غير مألوفة تمرّ، سيارات بكلّ أنواعها وأشكالها تتسارع إلى الفراغ كأنها في سباق مع الزمن والوقت، أراقب قلق المدينة وخوفها كأنها وقعت فريسة لزلزالٍ لا مفر منه، أنا أقف الآن في قلب الحرب.. إن كان لها قلب!

أستندُ إلى حافة الباب، أغمض عينيّ وأسبح في سواد تلمع فيه نجوم صغيرة، من العتمة تأتيني تلك الأصوات، ويطلّ عليّ وجه أسماء التي أعرفها من قبل، هذا وجهي قبل أن تُغيره الحرب، تبتسم أسماء داخل ذلك السواد، أعرفها كيف تكون هادئة، بينما يشعر الجميع من حولها بأن العالم كله ينهار فوق رؤوسهم، أمدّ يدي لها وأسألها بصوتٍ متهدجٍ وخائف: يا أسماء؟ ما الذي ينبغي فعله الآن؟ تبتسمين في عتمتك، فأشعر بأن الدنيا ستكون بخير، وأن القصص لا تزال تنتهي بنهايات سعيدة، وهناك حارسٌ للأحلام يملك عصاً سحرية كتلك التي للساحرة في قصة سندريلا، تتلو تعويذاتها مغمضة العينين، ثم بضربة واحدة تصبح الخيالات حقيقة، وتتحول الأسئلة إلى إجابات. تغرقين في التفكير كعادتك، تمسكين يدك بيدك، وتشبكين أصابعك ببعضها، تنظرين إلى الخاتم في إصبعك، تذكرك برودة المعدن بذكرى سعيدة.. وشخصٍ بعيد، تنظرين مجدداً لي وتخبرينني هذه المرة بأنّ هناك شمساً ساطعة ستشرق في صباحٍ ما، وتختفي أسماء. يأتيني وجه هبة، آه يا هبة مرّ زمنٌ طويل على غيابك، وجهها مثل نور، مثل شعاع شمس، فسيح مثل سماء، هبة التي لم تنسَ يوماً عيد ميلادي، هبة التي يأتيني صوتها وطفلاها يخبرونني بقدومهم. منهل وندى طفلا هبة اللذان لا يزالان يكتبان رسائل عيد ميلادي، وأدهش في كل مرة بكلماتٍ جديدة، ماذا أفعل يا هبة؟ والحرب تأكل المدينة وتأكل قلبي؟ أفتح عينيّ على صوت المدينة الجديد، صوت غير مألوف، لا أعرفه ولم أعتد عليه بعد، وأظنني لن أفعل. تسحبني قدماي إلى الغرفة، غرفتي..  ثلاث درجات، وممر صغير، وخطوات قليلة تفصلني عنها..

من قال إن الحرب لا تصيب اللغة بصاروخ وبقذيفة دقيقة تفقدك القدرة على الكلام، تفقدك التعبير؟

لم يكن من السهل عليّ أن أقنع نفسي بالتنازل عن عالمي، وتركه لمدة لا أعلمها، فالحرب لا تعطي لك موعداً مع الحياة أو الموت، لتكن مأوى -ربما هو آمن- لتسعة عشرَ نازحاً، تمر لحظات في مخيلتي، ماذا سآخذ من غرفتي؟ أو سأترك كل ما فيها لأني سأبقى داخل بيتي وقريبة من غرفتي؟ دخلتُ مسرعة إليها أنظر هنا وأنظر هناك، بكل زاوية، وبكل مساحة صغيرة فيها، تجول عيناي في المكان كمن يحاول حفظ أماكن الأشياء وتخزينها داخل عقله، هناك دائماً وقت يتغير فيه كل شيء. هذه لوحة رسمها لي صديقي حازم "فنان تشكيلي"، رسائل الصغار في عيد ميلادي.

("على الهامش" أحبّ الرسائل الورقية المكتوبة بخط اليد أكثر من الهدايا نفسها بعيد ميلادي).

ألمسُ تلك الأوراق الملونة، وتطلّ عليّ وجوه أولئك الصغار المشاكسين، أتذكر وجوههم مرحة ومبتهجة، كتبي، برواز سنابل القمح أحبه جداً "وحبة من سنبلة تسيل تملأ الوادي سنابل"، كل شيء في تلك الغرفة له حكاية وقصة، كحال تسعة عشرَ نازحاً الذين جاؤوا من أماكن مختلفة ليعيشوا في بيتنا. لكل واحدٍ منهم قصة يبدؤون قصصهم قبل الحرب، ومن ثمّ لا أعرف كيف يشتركون في جملة واحدة: ثم خرجنا من البيت. المدينة كلها أصبحت جنوب الوادي، وامتلأ الوادي بالناس ولم يعد هناك مكان للقمح..

حين تكون ممتلئاً حتى آخرك بالكلمات والشعور لكنك لا تستطيع مهما فعلت أن تضعها على ورقة

أعود لأتأمل غرفتي مرة أخرى. الصور المعلقة على الجدران، حيواني المفضل الفيل، وكيف يتكوم على السرير بحجمه الصغير لا الكبير، ككومتنا نحن، الخزانة آه، آه.. هذه الخزانة التي عمرها يفوق عمري بمرتين وربما أكثر، خزانة والدي الأولى، تجاعيد الخزانة المحفورة عميقاً فيها، خطوطها بنية اللون المرسومة بشموخ استبسالها، أبوابها بلا مفاتيح، كأنّها حرة طليقة لا شيء يمنعها من أن تفتح تلقائياً كلما أرادت، تشبهني بطريقة ما، مثلي حرة لكني لستُ طليقة، الحربُ تقيّدني، تشعرني بثقلٍ هائل يسحبني إلى الأسفل، في الوقت نفسه، هذه الخزانة تمنحني الحياة والأمل والقدرة على الاستمرار،  في كل مرة أنظر إليها، متشبثة بالغرفة كتشبثنا بالأمل، تلك الخزانة لم تتزحزح من مكانها يوماً، أحياناً أفكر لو أنّ جذراً نبت لها وامتدّ في أرض البيت، وأحياناً أخرى أتساءل كيف تعطينا الجمادات نصيبنا من الأمل والحياة بهذه الطريقة؟

بلكونتي العتيقة محطّ أنظار صديقاتي، كن يقلن لي "نيالك شو عندك بلكونة بتجنن بدنا نسكن فيها احنا"، وكأنّ صديقاتي تنبأن بالنزوح قبل حدوثه وهن يمزحن، لم يكن يعلمن أنّ غيرهنّ سكن البلكونة والغرفة، قوارير الورد، اللوحات الفنية، الإضاءة، البساط الملون، تشقق الجدران، السور الخشبي، كل هذا في البلكونة الصغيرة التي حين أكون منزعجة ومشتتة تكون هي ملجئي. الآن تحولت إلى مصنع للطعام في الحرب، الحرب حولت كل شيءٍ فينا إلى سواد أو بالأحرى إلى شيء لا لون له ولا طعم، رغم أن كل المشاهد ملونة إلا أنها في الوقت نفسه تبدو باهتة، شاحبة.

أخيراً، تنازلتُ عن غرفتي وأخذتُ فقط شنطة الحاسوب، وبعض الأشياء القليلة، تركتها كما هي، لم أستطع أن أنزع أي شيء منها، تركتُ رسائل الصغار الملونة، الصور المعلّقة، الكتب، لعلها تكون حنونة وآمنة على من سيكون بداخلها.. سكانّها الجدد.

ثلاث درجات وممر صغير وباب مغلق، يفصلني عن غرفتي داخل بيتنا، وكأن العالم كله يبعدني عنها، فأنا لم أنزح، لكنّي جربتُ شعور النزوح داخل بيتي.. بهذه البساطة والتعقيد في آن واحد، صرت نازحة. غرفتي كما لو أنه صار لها يدان هائلتان تحتضنان تسعة عشر شخصاً بألوانهم الباهتة، وعقولهم وقلوبهم المتروكة خلفهم في تلك المدينة شمال الوادي. 

أمين أصغر النازحين للغرفة، أكمل عامه الأول في الحرب، وبدأ خطواته الأولى المرتبكة نحو حياة لا أعرف كلمة واضحة لوصفها، موحشة؟ ربما.. في غرفتي، حينما شاهدته يحاول المشي انتابني شعور لم أستطع معرفة ماهيته، ما بين نشوة الانتصار على الحرب رغم كل شيء، وشعور آخر بالخذلان تجاه كل من صمت على موت أرواحنا، كيف لطفلٍ أن تكون أولى خطواته خارج بيته، سريره، ألعابه التي كان سيحصل عليها، عائلته الكبيرة، يا لها من حياة غير عادلة، أمين الصغير يحاول في كل مرة الوقوف والمشي بعد السقوط عشرات المرات على الأرض، يقف، يحاول، يتعثر، يسقط، يقف من جديد، دون فقدان الأمل والشغف نحو المحاولة والاستمرار. 
ليتنا كلنا أمين.

كيف لأمين الملاك الصغير أن يفقه معنى الموت والحرب؟ وكيف تكون هاتان الكلمتان ضمن أولى كلمات يسمعها، ويتعلمها، وربما يرددها عما قريب، في الوقت الذي من المفترض أن يعرف معنى البيت، العائلة؟ أم حسام، ديما، ولاء، محمد، فداء، بيسان، أبو منهل، أم منهل، وآخرون كلهم لديهم حكايات وآمال وأحلام وأمنيات وشهقات باكية، ودموع حارة صامتة، شهدت عليها غرفتي، ففي أرواحهم قلق لا يوازيه قلق، قلق على كل شيء، على الحياة، على الأرض، على الأمنيات، فجميعهم أمنيتهم الوحيدة: العودة إلى البيت.

من قال إن الحرب لا تخطف القلب، وتسرق اللغة أيضاً؟ من قال إن الحرب لا تصيب اللغة بصاروخ وبقذيفة دقيقة تفقدك القدرة على الكلام، تفقدك التعبير، والبوح؟ حينها كل معاجم اللغة لا تسعفك لوصف ما بداخلك.

ورغم ما أصابتني به الحرب من خطف لروحي ولغتي فإنني أحاول في كل مرة الكتابة، الكتابة بصمت، لا أعرف كيف يمكن أن تكون الكتابة صامتة، ربما حين تكون ممتلئاً حتى آخرك بالكلمات والشعور لكنك لا تستطيع مهما فعلت أن تضعها على ورقة. أو ربما هي محاولة للثبات، والتشبث بما تبقى من الروح.. 

في 10 مارس/ آذار 2024، عدتُ إلى غرفتي بعد خمسة أشهر وثلاثة أيام، ولم تعد الثلاث درجات والممر الصغير يفصلنني عنها. احتضنت كل شيء فيها، قبّلت جدرانها، وقفت على شباكها الذي سلبه القصف المجنون في إحدى المرات، أحمد الله كثيراً على سلامة غرفتي، لكن يتملّكني شعور بالذنب وغصة لا تفارقني على حال البيوت وأصحابها، كيف حال من لا بيوت لهم، كيف لأرواحنا أن تتحمل كل هذا الخراب والدمار، كيف يمكن أن تأكل الحرب مدينة بأكملها، ببيوتها، البيوت لم تنجُ هي أيضاً من الموت، الحرب مكلفة حتماً، ستبقى البيوت والغرف معلقة شاهدة، تحفظ في داخلها كل ما حدث لها، وفي يومٍ ما.. ستسرد حكايتها لمن تبقى من أهلها..

مايو / أيار 2024


أسماء سلامة أبو منسي/ كاتبة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون