ثلاث حكايات من الحرب

19 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني محمد الحواجري
+ الخط -

الطفل الأسطورة

سار بخطى واثقة سير الأبطال، وقف على باب بيتهم المدمر شامخاً شموخ الجبال، وصف للصحافيين والمهتمين بما ألمّ به وبعائلته من خوف ووجل، وصفاً دقيقاً يفوق به كثيراً من الرجال، تسمعه فتحسَبه رجلاً كبيراً وهو ما زال من الأطفال.

الطفل محمد الخضري ابن الخامسة من عمره، كان شاهداً على تفجير باب منزلهم، واقتحام جنود مدججين بالسلاح، يحسَبون أنفسهم رجالاً وهم كأشباه الرجال، كونهم رَوّعوا الصغار قبل الكبار، وعاثوا في المنزل خراباً وتدميراً، وتركوه كما لو أصابه زلزال.

هذا ما بدأ به محمد الذي سمع بأذنيه، وشاهد بأم عينيه، حديثه عن عملية اقتحام جنود الاحتلال لمنزل عائلته، واعتقال والده بعد إصابته في عينه، جراء إطلاق النار بكثافة في كل مكان حولهم، وضرب والدته التي أنزلت يديها عن رأسها، وحاولت أن تتناول طفلها الرضيع عن الأرض، وجمعهم في إحدى زوايا البيت، والبدء بتكسير كل ما هو زجاج أمامهم وتحت أرجلهم الحافية.

حين التقط بعدسة كاميرته كلّ ما شاهده بالعين المجردة، حاول التنحي جانباً، وأخذ استراحة مقاتل

وقال: ضرب وتنكيل، صراخٌ وعويل، تهديد بالقتل، مصحوباً بنباح كلاب بوليسية مدرّبة، هذا كله وغيره الكثير، ونحن ووالدتنا نبكي من شدة الخوف، لا يسمحون لنا أن نتحرك من مكاننا، ففوهات بنادقهم مصوبة إلى رؤوسنا، وآخرون يعيثون في ممتلكات بيتنا دماراً وتخريباً، لم يبقَ شيء في مكانه إلا وكسروه، فأدوات المطبخ أصبحت حطاماً، وملابسنا باتت ممزقة لا تصلح لشيء إلا لمسح البلاط.

وحين انتهوا من كل ذلك، أخذوا والدي معهم معصوب العينين، مقيّد اليدين، غير آبهين للدماء التي تنزف من عينه المصابة بشظايا رصاصهم، سحبوه من قميصه المضرج بالدماء، ووجهه الذي ينزف بغزارة، غير آبهين لتعثره أكثر من مرة، على سلم العمارة، اصطحبوه ومشوا به بعيداً تحت إطلاق وابلٍ من الرصاص تحت أقدامنا، وعلى ما تبقى في المنزل من شاشة التلفاز، والخزائن، كان هدفهم التدمير والتخريب، وبث الرعب في قلوبنا، ليس إلّا.

هذا هو حالنا كآلاف العائلات في قطاع غزة، لكن كل ما فعلوه بنا لن يثنينا عن العودة إلى منزلنا، وإقامة خيمة على أنقاضه، ومن ثم تشييده مجدداً، إن سنحت الفرصة، فالاحتلال إلى زوال، طال الزمن أم قصُر.


صحافيون في دائرة الاستهداف

"أمانة يا دكتور ترَكّب لي بلاتين، وترجّع لي رجلي مكانها، أنا ما بأقدر أعيش برجل واحدة، أنا لا أعرف لماذا قصفونا، طلبوا منا ارتداء الدرع والخوذة فارتدينا، قالوا أنتم محميّون بقوة قانون حماية الصحافين فقصفونا" هذا ما قاله الصحافي سامي شحادة وهو ممدد على سرير "مستشفى شهداء الأقصى" بدير البلح في غرفة العمليات.

وتابع شحادة: "سأكمل رسالتي في مهنة المتاعب حتى ولو كنت على عكاز، لن يثنوني عن أداء رسالتي هذه، على العالم محاكمة إسرائيل على جرائمها بحق المدنيين العزل، والصحافين الذين يؤدون رسالتهم المهنية والوطنية والإنسانية.

مع من سيعيش، ومن سيتقبله، وهل سيبقى وحيداً طوال حياته، بعد أن كانت له أسرة متماسكة يحب بعضها بعضاً

في صباح ذلك اليوم، ارتدى سامي ملابسه على عجل، تمنطق بدرعه الصحافية، حمَل كاميرته على كتفه، سارع الخطى نحو سيارته، استقلها، سار بها في شوارع المخيم، وجد الكثير من زملائه ممن سبقوه إلى المكان، اندسّ بينهم لالتقاط صور جديدة للحدث، لم يأبه بأصوات طائرات الاستطلاع والطائرات الحربية التي تُحلق في سماء المخيم، ولا بأصوات الاشتباكات الدائرة في المنطقة الشمالية للمخيم، على بُعد مئات الأمتار من مكان وجودهم، كان همه الوحيد أن يؤدي عمله المهني على أكمل وجه، وينقل هموم الناس إلى العالم، ويفضح جرائم الاحتلال بحق شعب أعزل، وما كل ذلك إلا من عزيمته وصبره على البلاء.

حين التقط بعدسة كاميرته كل ما شاهده بالعين المجردة، حاول التنحي جانباً، وأخذ استراحة مقاتل، لاستجماع قوته، استعداداً لأي تصعيد جديد، غير مدرك أنّ عدونا لا يهنأ له بال، ولا يستكين له حال، إلا ويحاول إخفاء جرائمه، من خلال قتل الصحافيين، وطمس الحقيقة، وإخفاء الصورة عن العالم.

لم يكن سامي صحافياً عادياً، بل كان شعلة من النشاط، تجده أينما وُجدت الأحداث، فاستهدفوه كما استهدفوا غيره، فأُصيب معه زملاؤه سامي برهم، وأحمد حرب، ومحمد الصوالحي، كما غيرهم الكثير، فالحرب مسعورة، والجنود موتورون، لا يأبهون لإدانة دولية، أو للاستنكارات العربية، فالقتل ديدنهم، والتشريد غايتهم، ولا يهنأ لهم بال إلا بإبادة كل شعوب العالم ليحيا شعبهم.


خروجه كطير العنقاء

صرخ بصوت مكتوم أكثر من مرة: "أنا هان، في حدا سامعني؟" وحين لم يأته جواب، استسلم للبكاء، فذرف الدموع بغزارة، لكنه تذكر أن الدموع في مثل حالته هذه، لا تُسمن ولا تُغني من جوع، أو بالأصح، لا تُنقذ حياته، فعاد يصرخ من جديد: "يا شباب، أنا محمد، أنا ما زلت عايش، يا شباب، أنقذوني".

بعد وقت قصير مرّ عليه كأنه الدهر كله، سمع الطفل محمد ابن الثالثة عشرة من عمره، صوت أحد الشباب ينادي ويقول: "هل هناك أحد ما زال على قيد الحياة"، وعندما لم يأته أي جواب، بالسلب أو بالإيجاب، بدأ ينادي عليهم كلٌّ باسمه، وبعد كل اسم ينادي عليه، كان يصمت برهة من الزمن، علّه يسمع صوت أحد من تحت الأنقاض، ومن بين أكوام الركام، يطلب النجدة، أو يئنّ من ألم: "أبو محمد، أم محمد، محمد، في حدا سامعني؟".

فتهلل وجه محمد المصاب بجروح وكدمات، والنازف منه الدماء بغزارة، وبدأ يفتح فمه المليء بالتراب، وينادي بصوت مكتوم، لا يسمعه المنقذون إلا بصعوبة: "أنا هنا، أنا ما زلت على قيد الحياة، في حدا سامعني؟".

فجاءه الجواب على عجل: "مين أنت، في حدا من أهلك جنبك، في حدا عايش؟ حدد مكانك بالضبط، من أجل إخراجك"، فقال: "أنا هنا في الزاوية الشرقية لبيتنا، وجنبي أختي سلمى لا تتحرك، أظن أنها ميتة".

فأعاد المنقذ السؤال من جديد: "كيف والدك ووالدتك هل هما على قيد الحياة، وأين هم موجودون، وباقي إخوتك، المهم أنت لا تخاف، أنت أصمد، وإقرأ قرآن، إحنا سنخرجك بإذن الله".

بدأ العشرات من الشباب من مختلف الأعمار، بالعمل كخلية نحل، منهم من عمل على رفع الحجارة الصغيرة، ومنهم من كان يكسر الحجارة الكبيرة، وآخرون ينقلونها بعيداً عن المكان، إلى أن استطاعوا الوصول إليه بشق الأنفس، فحاول رفع يده، فلم يستطع، لكن لسانه كان يلهج بالدعاء أن يكون مصير عائلته كمصيره، وألا يفقد أحداً منهم على الإطلاق.

طالبه الشباب بعدم إجهاد نفسه، وبعدم التحرك حتى يصلوا إليه لإخراجه، وشيئاً فشيئاً، استطاعوا سحب جسده من تحت الركام، كطير العنقاء، وضعوه على نقالة، وحملوه إلى سيارة الإسعاف التي كانت تقف غير بعيد عن المكان، فنقلته إلى المشفى المدمر جزئياً، لكنه يعمل بإمكانيات بسيطة.

فور وصول الطفل محمد إلى المستشفى، غاب عن الوعي، وبمجرد أن فتح عينيه بعد إفاقته، سأل عن أهله، عن والده ووالدته، وعن أختيه سلمى وعبير، ما هو مصيرهم؟ هل هم بخير؟ هل تم إنقاذ أحد منهم؟ لكن من كانوا يقفون إلى جانبه للاطمئنان عليه، أخبروه أن عائلته استشهدت من شدة القصف، وأنه الآن أصبح وحيداً، ويجب عليه أن يتحمل هذا الفراق الصعب، والألم الشديد، وأن يكون على قدر كبير من المسؤولية.

سارع حينها محمد إلى سحب الغطاء الملقى فوقه، ووضعه على رأسه، وأجهش بالبكاء، فذرف الدموع بغزارة، وترك العنان لنفسه للتفكير في مصيره بعد تلك المصيبة، أين سيسكن، ومع من سيعيش، ومن سيتقبله، وهل سيبقى وحيداً طوال حياته، بعد أن كانت له أسرة متماسكة يحب بعضها بعضاً.

وحين حاول من يقفون معه، تهدئة روعه، والتخفيف من مصابه، قال بصوت متحشرج: "يا ليتني بقيت تحت الأنقاض، ولم ينقذني أحد، يا ليتني مت مثلهم، لنرتقي معاً إلى الجنة"... إلى متى سنبقى هكذا؟ عائلات كاملة تباد، وأطفال يشردون، ونساء مكلومات يترمَّلنَ...


* كاتب من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون