يُنتظر أن يُقام بعد غدٍ الأربعاء مزادٌ لأعمال من الفنّ الحديث والمُعاصر في "الشرق الأوسط" تُنظّمه في لندن "دار بونهامز" المعروفة. تضم المجموعة المتاحة للبيع في المزاد أعمالاً لفنّانين عرب من المعلّمين، منها خمسةٌ لفنّانين سوريّين.
من هذه الأعمال لوحةٌ للتشكيلي الراحل محمود حمّاد (1923 - 1988) بعنوان "تحية إلى المُقاوم"، تعود ملكيتها إلى مجموعة خاصّة في مدينة باكو بأذربيجان.
في البداية، يدعونا وجود هذه اللوحة في المزاد إلى تذكُّر الحادثة التي حصلت مؤخَّراً مع لوحتَي الفنّان اللبناني أيمن بعلبكي؛ ففي هذه الفترة المضطربة التي نمرّ بها، يبدو أنّ الأمر صار يتعدّى فكرة بيع لوحة فنّية في مزاد. ووجودُ هذا العمل للفنّان الكبير الراحل، بما يحمل من رمزية، يُحتّم علينا أن نتساءل عن إمكانية سحبه من المزاد، كما حصل في "دار كريستيز" حين سحبت قبل أيام قليلة من موعد المزاد الذي أُقيم في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر لوحتَي أيمن بعلبكي، بناءً على شكاوى وصلت إلى الدار، لم يُصرَّح عن مصدرها.
تُمثّل لوحتا بعلبكي، في كلّ منهما، وجهاً أو "بورتريه"؛ الأُولى لشابّ مقطّب الحاجبَين يُغطّي وجهَه بكوفية حمراء، وهي من ضمن سلسلة أعمال بدأ بها الفنان سنة 2012 بعنوان "المُلثّم". وأمّا الثانية، فتحمل عنوان "مجهول"، وهي لصاحب قناع واقٍ من الغازات، يلفُّ على جبينه عصّابة حمراء كُتبت عليها عبارة "ثائرون".
أصلُ اللوحة اسكتش خُطّط عام 1958 ونُفّذ عام 1968
وبالتأكيد، فإنّ مسألة السحب تتعلّق بما يجري الآن في غزّة؛ فصورةُ الملثَّم في لوحة بعلبكي، وإن ظهر على خلفية تزيينية، تُذكّر بصورة "أبو عبيدة" (وغيره سابقاً)، الذي يظهر في عدّة تسجيلات تلفزيونية كناطق رسمي باسم "كتائب القسّام".
تثير حادثة "كريستيز"، ومُلثَّم بعلبكي الذي أربك أصحاب "البزنس"، أيضاً الرغبة في الحديث، ولو بشكل سريع، عن شخصية الفدائي التي صوّرَها فنّانونا، بالذات في سورية. فبعد النكبة، بدأ الفلسطينيّون بتنظيم الكتائب والتنظيمات المسلَّحة، وبدأ يظهر مصطلح الفدائي كاسم أو صفة للمُقاتل الفلسطيني، فلم يعُد الفلسطيني ذلك اللاجئ أو المشرَّد، بل أصبح الفدائي الذي يحمل السلاح. ألهبَت صورة الفدائي هذه خيال العديد من الفنّانين، وممن صوّره نذكر في المقدّمة برهان كركوتلي ونذير نبعة، ولا سيما غداة نكسة حزيران 1967، وكذلك مروان قصّاب باشي، الذي راح بدءاً من أوائل السبعينيات يرسم وجوهاً ملثَّمة، ومن بينها وجوه الفدائيّين.
أمّا بالنسبة إلى لوحة محمود حمّاد، فتحُدّثنا السيّدة لبنى، كريمة الفنّان، عن معرض أقامه والدُها سنة 1968 في أذربيجان، وكانت هذه اللوحة من ضمن الأعمال المعروضة فيه. يُدوّن الفنّان في دفتر ملاحظاته "تحية إلى الفدائي" كعنوان للوحته. أمّا ما سجّله بالفرنسية خلف اللوحة المعروضة، فهو "تحية إلى المقاوم".
وتُمثّل اللوحة، على خلفية محايدة، رجُلاً قويّ البنيان، هو الفدائي أو المقاوم، يحمل بيده اليمنى المرفوعة إلى أعلى كرة صغيرة، هي قنبلة يدوية، في حركة ترمز إلى التحدّي، أمّا يده اليسرى، فيضعها على رأس امرأة تتكوّر على نفسها في وضعية الخائف. وعلى الرغم من أنّ الفنّان يُهمل التفاصيل، ومنها تفاصيل الوجهَين، كون أسلوبه هنا يميل إلى التكعيبية، إلّا أنه ينقل إلينا شعوراً وكأنّ المرأة هنا هي عجوز تطلب الحماية... أيريد بها الأمّ؟ الوطن؟
عملٌ يُذكّرنا مُجدَّداً بأهمّية النضال المسلَّح
يغلب على اللوحة اللون الأزرق، ويجاوره القليل من البنفسجي، ويأتي الأحمر كي يحيط بخطٍّ رفيع بكتفَي الفدائي من يمين الصورة ومن ثمّ يعرض هذا الخط ليضيء وجهه ويده التي تحمل الرمّانة، وكأنّ الفنان يريد لعَين المتلقّي أن تستقرّ هنا، مركز اللوحة، مؤكّداً أهمية النضال المسلَّح. أسلوب اللوحة، كما قلنا، أقربُ إلى التكعيبية، وهو الأسلوب الذي بدأ حمّاد ببلورته غداة عودته من الدراسة في روما وعمله في مجال التدريس بمنطقة حوران، حيث بدأت خطوطُه تتكسّر والتفاصيل تختفي والعناصر تَقلّ.
بالعودة إلى أرشيف الفنّان، نجد أنّ أصل اللوحة هو اسكتش صغير خطّطه بالألوان المائية على الورق، ويعود إلى سنة 1958 بعنوان "الفدائي". ونلاحظ في هذا الاسكتش أنّ الرمانة تظهر في يد الرجل بشكل واضح لا لبس فيه. لكن، ما الذي أجّل تنفيذ هذا الاسكتش عشر سنوات وكان الفنّانُ حينها، أي سنة 1968، قد رسّخ أسلوبه التجريدي (الحروفي) واستقرّ عليه؟
في الحقيقة، لم يكن حمّاد بعيداً عن هموم وطنه، فقد تناول منذ بداياته مواضيع اجتماعية ووطنية خالصة في أعماله، وحتى في أسلوبه الذي استلهم فيه الحرف العربي في تشكيل تجريدي خالص، كان حريصاً في عملية انتقاء جمله الملتزمة. ولا شكّ أنّ رجوعه إلى هذا الموضوع، يعود إلى الموجة العارمة التي غلبت على المشهد التشكيلي السوري غداة نكسة حزيران، والتي تمثّلت في نشوء تيار التزم القضية. ولا ننسى هنا أنّ حرب الاستنزاف التي جرت على أكثر من جبهة كانت في أوجها. في تلك السنة أيضاً، 1968، جرت "معركة الكرامة"، والتي يعتبرها الكثيرون ردّاً على هزيمة حزيران. هي إذن موقف!
لا يوجد في عمل حمّاد كوفية ولا إشارة إلى الأرض المحتلّة (لن تخيف الصورةُ من لديهم فوبيا)، لكنّها تحمل كلَّ ذلك الصدق في التعبير وكلَّ ذلك الالتزام أو المسؤولية التي شعر بها ذلك الجيل تجاه القضية "الأُولى".
* فنّان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا